المشهد الذى كاد – لتكراره – يصبح ثابتًا، عندما تنشأ مشكلة في الوطن العربي، سواء كانت داخلية بين أبناء القطر الواحد، أو بين قطر وآخر، أو مجموعة أقطار. تتناسي واشنطن جرائمها البشعة في فييتنام وكوبا وجربنادا والعراق والصومال وأفغانستان وغيرها من دول العالم، وتفرض نفسها وصية، أو شرطيًا يملي أوامره، بصرف النظر إن كانت تلك الأوامر في صالح الشعوب. المهم أن يتدخل الشرطي الأمريكي في النزاع المثار، يعد ويتوعد ويملي، ربما ليثبت موضعه كقائد شرطة لهذا العلم. بل إن الرئيس المنتخب ترامب تجاوز صفة الشرطي، فأمر بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، واعتبر القدس عاصمة لإسرائيل، كما أعلن ضم الجولان – بصفة نهائية – إلى الكيان. أما المنظمات الدولية المعنية بالسلام في العالم، وبحق الشعوب في تقرير مصائرها، فإن دورها يقتصر على إصدار القرارات التي يجهضها – غالبًا – فيتو واشنطن في مجلس الأمن، أو تتوه في سراديب الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية. أذكرك بارتباك العالم في مواجهة التعسف الصهيوني ضد منظمة الأونروا، والصمت الأمريكي عن الأفعال الصهيونية التي شملت حتى موظفي الإغاثة الدوليين.
هذه هي الصورة التي طالعتنا بها إسرائيل والولايات المتحدة في أعقاب إسقاط النظام الأسدي في سوريا. دمر الجيش السوري معظم البنية التحتية للقطر السوري، ومنها ما يقارب 80 % من السلاح السوري، بما وصفته إسرائيل أنه أخطر عملية قام بها الجيش الإسرائيلي منذ قيام الدولة.
حتى في حروبها المتواصلة على الأرض العربية، تلجأ إسرائيل إلى مؤامرات الاغتيال، بديلًا للحرب من أي نوع. مجرد أساليب عصابات، بلا أخلاقيات، ولا مراعاة قوانين. كأنها زرعت في المنطقة لإثارة حروب متوالية، استنزافًا للقدرات العربية، ومحاصرة الوطن العربي بالمؤامرات والحروب. وليس غريبًا أن العدالة الدولية كانت تطلب قيادات العصابات الصهيونية من قبل أن تنشأ الدولة، في ضوء الطلب الحالي للمحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير حربه المقال.
المهم أن واشنطن لم تتجه بأوامرها إلى”البلطجي” وإنما قصرت تحركاتها – بالنسبة إليه – في إيفاد كبار مسئولي البيت الأبيض، وإجراء حوارات خلف الأبواب المغلقة، واتخاذ قرارات غير معلنة، كما هي الحوارات بين حليفين. ولعل الاستقراء المتأمل لتوالي حروب إسرائيل وعمليات التدمير والاغتيالات في الوطن العربي وخارجه، يبين عن الدور الحقيقي لإسرائيل في المنطقة ( تباهى نتنياهو – في تصريح أخير – أن جيشه الأكثر أخلاقية في العالم يحارب في سبع جبهات!). وبتعبير محدد، فإن المنطقة العربية – منذ قيام دولة إسرائيل – هي أشد المناطق توترًا في العالم.
تركزت خطب نتنياهو وتصريحاته – تبريرًا لمذابح إسرائيل ومجازرها في قطاع غزة – أن العشرات من الأبرياء قتلوا بأدي مقاتلي حماس، لم يشر إلى أن مواطنيه ليسوا إلّا مستوطنين في أرض الغير، كما لم يشر إلى عشرات الألوف من الشهداء والجرحي من الفلسطينيين المدنيين، مورست ضدهم أبشع المجازر، بداية من القتل العشوائي، واستمرارًا في عمليات التجويع والتدمير، بحيث أصبح الإفناء هو الغاية المستهدفة.
الهجمات الإسرائيلية تجسيد للعقلية الصهيونية، لوضعها في قلب الوطن العربي، وأنها زرعت في الأرض العربية لنشر الجدب والدمار، وتطويع الثروات العربية لصالح التحالف الصهيوني الأمريكي.
حدثتك عن كتابات قرأتها في صحف مصرية – للأسف – مطالع القرن العشرين، تتكلم عن الأهداف التي تعدها الحركة الصهيونية بإنشاء دولة عبرية في الشرق الأوسط، تزيل التخلف الذي تعانيه المنطقة، وتنشر الحضارة والتقدم.
كما تعلم، فإن قادة إسرائيل مهدوا لقيامها بما يتضاد مع الشعارات التي يرفعها – حتى الآن – بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء، والمطارد من الجنائية الدولية، بالإضافة إلى جالنت وزير الحرب الذي أقاله، لا لخطأ وزاري، وإنما لاختلافه في طبيعة الممارسات ضد الفلسطينيين، ولم ينس الفلسطينيون وأحرار العالم وصفه لثوار غزة أنهم وحوش في هيئة بشر! في إطار هذا المعنى يجدر بنا فهم قول ترامب إن المساحة الصغيرة لإسرائيل تتطلب توسعًا، وهو توسع على حساب الأرض العربية، في ما تبقي من فلسطين، ومن أراض عربية أخرى.
النسيان صهيونيًا في حالة غياب دائم. قادة الكيان الصهيوني يتحدثون عن التقدم الحضاري، ويمارسون الضد. ذلك ما فعله بن جوريون في العدوان الثلاثي على مصر في 1956، بعد ثماني سنوات من قيام الدولة العبرية. تكلم عن أبدية ضم سيناء إلى إسرائيل، وأنشأ فيها العديد من المستعمرات.. لولا الموقف المشترك، الرافض لتلك الخطوة من واشنطن وموسكو نتيجة غضب واشنطن على الغزو الثلاثي دون إبلاغ سيد البيت الأبيض، إلى جانب دعم موسكو للقيادة المصرية في بناء السد االعالي.. ولولا أن الظروف الدولية كانت تختلف عما هي عليه في 1948، حتى أن القطبين الكبيرين الولايات المتجدة والاتحاد السوفييتي (روسيا) سارعتا إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني عقب دقائق من إنشائه، ومارست واشنطن ضغوطًا هائلة على دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية لتحصل إسرائيل على عضوية المنظمة الدولية.
اللافت أن ساسة واشنطن يلحون على أهمية الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين في غزة (عددهم – في إحصاء أخير – 41 شخصًا ) ويتناسون أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وأعدادًا أخرى في الضفة الغربية. كما أغفلت الذاكرة الأمريكية أكثر من 150 ألف شهيد ومصاب في حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة.
تبقى ملاحظة أرجو أن يدركها المواطن العربي، أيًا تكن مسئولياته وحصيلته المعرفية والاجتماعية، هي أن الدمار الذي لحق البنى التحتية السورية، من خلال الهجمات الإسرائيلية على كل المستويات، تجسيد للمثل الذي نكتفي بنريده كحكمة بليغة عن الثيران التي أكلت قببل أن يؤكل الثور الأبيض!