# من أول السطر
حين يخفت صوت العقل والحكمة وتتراجع القيم الإنسانية والأخلاقية إلي أدني مستوياتها فانتظر الساعة وقل علي الدنيا السلام..
وقد تتباين أحوال بني البشر أحيانا بين متعاطف ومحايد ومؤيد ومناصر للقضية الفلسطينية بكافة أبعادها ومآسيها، لكن الجميع يلتقون مع كل عربي حر في خانة القواسم الإنسانية المشتركة التي تنتصر للحق والعدل وتتفق في الرؤي والقناعات حول حق أبناء فلسطين في التمسك بأرضهم والبقاء في ربوعها ولو مع الأطلال وأكوام الرماد.. وهو حق إنساني أزلي لا مزايدة أو مساومة عليه ولا يقبل الجدل والمناقشة وعقد الصفقات.. شاء من شاء وأبي من أبي!.
ومنذ نكبة فلسطين عام 1948حاول الكيان المحتل بمساعدة أعوانه مرارا وتكرارا، وبأبشع الطرق وكافة الوسائل المجرمة التي ترفضها كافة الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية محو الهوية الفلسطينية وتشريد وتهجير ووأد فكرة المقاومة من وجدان أبناء وطن الصمود، وكان الفشل حليفهم.
وعلي الجانب الآخر أعلن الفلسطينيون صراحة أنهم لن يتركوا بلادهم، ولو استشهدوا جميعا، وتلك قناعة منبعها عبقرية النضال والإيمان المطلق بنصر الله ولو بعد حين!
وقد أثار مقترح “ترامب” سخط وغضب كل من لديه أدني قدر من الإنسانية، فظاهره الرحمة والترفق الكاذب، ومن قبله العذاب وإنهاء الوجود وتصفية القضية الفلسطينية إلي الأبد، فقد أعلن الرئيس الأميركي أن واشنطن ستتعامل مع غزة كـ”صفقة عقارية استثمارية” بهدف إنشاء منتجعات “ريڤيرا” الشرق الأوسط.
ووفقا للرؤية “الترامبية” فالولايات المتحدة لا ولن تتعجل في اتخاذ أي خطوة”، وقال: لن تكون هناك حاجة لنشر أي قوات أمريكية، وإسرائيل ستتولى مسؤولية الأمن، ونحن لن نرسل جنودا، لكن مجرد وجودنا واستثمارنا هناك سيساهم في تحقيق السلام”!.
حقا إن لم تستح فافعل ما شئت، ولكل داء دواء يستطاب منه إلا الحماقة أعيت من يداويها.. ولا أدري كيف يفكر هذا الرجل دون أي إلتفات أو إكثراث لدماء عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، والمفقودين تحت الأنقاض.. ودون أدني إحساس بحجم الجرم التاريخي الذي اقترفه الكيان الصهيوني بمساعدة أمريكا والحلفاء بحق أبناء فلسطين ..
ويبدو أننا علي موعد جديد من فصول الإجرام والإفساد بعيدا عن صوت العقل والمنطق والحكمة.
وبحجم وقاحة المقترح “الترامبي” حول فكرة تهجير الفلسطينيين إلي مصر والأردن جاءت ردود الأفعال الغاضبة وتحركت مشاعر السخط والإستنكار لدي كل الشعوب العربية وكل شعوب العالم الحر علي المستويين الشعبي والرسمي، فإذا زاد الشيء عن حده انقلب إلي ضده!.
وأعربت دول العالم ومن بينها دول غربية عن رفضها لهذا المقترح الخبيث “اللامعقول” واستنكارها لهذه الأطروحات “الهوجاء” غير محسوبة العواقب، والتي ربما تشعل صراعات وحروبا جديدة وتقود المنطقة إلي فتن جديدة لا يعلم مداها إلا الله.
وجاء صلابة الموقف العربي والتضامن المصري السعودي الإماراتي تجاه ترهات ” ترامب” وترهات “نتانياهو” بنقل الفلسطينين إلي السعودية بمثابة رسالة قوية وواضحة للعالم، فالجميع اتفقوا أن مخطط ” ترامب” بشأن غزة مرفوض ويتناقض مع كافة المواثيق والاتفاقيات الدولية والإنسانية.
ووسط هذا الرفض الدولي والعربي القاطع لم يعد أمام الرئيس الأمريكي ” دونالد ترامب” سوي التراجع عن مخطط تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، والذي يُعد انتهاكا لحقوقهم ومحاولة تُخالف الشرعية الدولية وتضرب بكافة المواثيق الإنسانية عرض الحائط، ومن ثم التفكير في حلول بديلة وعلي رأسها إعادة إعمار غزة وبحث إنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
ومن مؤشرات النوايا الخبيثة التي حظيت بالاستهجان أيضا إعلان أمريكا الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة وعلي نفس الخطا سارت إسرائيل.
ومن المؤشرات المؤلمة أيضا نسف جهود التوافق الأممي وتقويض المؤسسات الأممية حيث صرح ترامب بأن الجنائية الدولية ليس لها ولاية قضائية علي أمريكا ولا إسرائيل، وقرر فرض عقوبات عليها، كما قرر حظر تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا”
وبوصفها عضوا في اللجنة الاستشارية منذ عام 1949، فقد كانت الولايات المتحدة أكبر مانح للأونروا ولطالما كانت واحدة من أكثر الداعمين للأونروا.
ويبدو أن ” ترامب” الشخصية الأكثر جدلا بين رؤساء أمريكا قد تنصل من وعوده مبكرا بإحلال السلام في العالم، فماذا تتنظر من رئيس مجلس إدارة العالم حين يفتقد الصواب والحكمة والإنصاف والتقييم العادل للقضايا الدولية والإنسانية، ويتعامل مع مختلف قضايا العالم بمنطق لا يخلو من البلطجة والتسلط والعنجهنية والكبر والصلف وفرض سياسة الأمر الواقع!.
وقد كانت أمريكا تحاول التجمل أحيانا في السابق، وإقرار شيء من العدل والتوازن والمواءمة، انطلاقا من طبيعة دورها المحوري ورعاية لمصالحها، ولكن يبدو أن ” ترامب” يسير في طريق متفرد بسياسات متهورة وحادة ومتطرفة، لا ريب أنها ستجد معارضة شديدة، وربما تعجل بسقوطه وسحب الثقة منه والسعي لعزله كما حدث إبان فترة ولايته الأولي.. والأيام وحدها كفيلة بالحكم علي سياساته غير المنضبط وحسم هذا العبث السياسي الذي لم تشهد له البشرية مثيلا!
وأتصور أن الموقف العربي الموحد برفض مخطط تهجير الفلسطينيين قسريا أو إختياريا هو موقف مشرف سيذكره التاريخ ومقدمة لمواقف أخري وسياسات جديدة تجاه هذا الصلف الأمريكي والتجاوز الصهيوني الذي فاق حدود العقل والمنطق وكافة المواثيق الأممية.
وبعيدا عن مدي جدية هذا التوجه وتلك المقترحات، أو كونها مجرد بالون اختبار لمواقف الدول العربية، ومع استحالة تنفيذها مع هذه الإرادة العربية القوية، فإن الأمر ينذر بعواقب وخيمة ويحمل مؤشرات سلبية تجاه قضايا ومشكلات العرب المزمنة والمستجدة.. فلا تنتظروا خيرا معشر العرب من ترامب أو من ذيوله..
وعليه فلم يعد التكاتف العربي أمرا يحتمل الرفاهية أو الحفاظ علي ماء وجه الكيان العربي وإنما أمسي واجبا وضرورة حتمية ووجودية في ظل هذا الضغط غير المسبوق والتحديات المتزايدة التي تواجهها الأمة العربية.
وستظل دماء الشهداء التي روت الأرض عزا وشرفا وروحا وحياة وصمود إلي أن يقضي الله أمرا كان مفعولا شاهدا علي جرائم الصهاينة ومن عاونهم وما اقترفوه من إبادة في حق الأبرياء، ولن تمحي بقايا وآثار تلك الجرائم والممارسات القبيحة مهما حاول البعض تجميل الصورة ومحوها من الأرض والذاكرة والوجدان.. لا لأنها فقط حفرت في القلوب وفي سجل فساد بني الإنسان بل في سجلات من لا يغفل ولا ينام، وعند الله تلتقي الخصوم.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
—