ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات وإطلالات أدباء ومواهب أرض الكنانة..
وعبر سطور التالية تنشر بوابة الجمهورية والمساء إطلالة قصصية مبدعة للأديب أحمد رفاعي آدم تحت عنوان (مغترب مع سبق الإصرار) ضمن سلسلته الأدبية “قصة وعبرة”..
والقصة مختارة من مجموعته القصصية الأولى بعنوان (مغترب مع سبق الإصرار) ..
🍂
مغترب مع سبق الإصرار
»» القصة
مَنْ ذلك الرجل الذي قال إنَّ كثرة الخوف تقتل الخوف وغموض المجهول يدفع إلى المجهول؟ لا أتذكر ولكني أصدقه. فها أنا ذا أعد العدة وأجهز حالي ومالي لأرحل. غداً فجراً أحمل حقيبتي وأوجاعي وأحلامي المشوهة وأسافر إلى بلدٍ بعيد يفصل بحرٌ واسعٌ وصحراءٌ شاسعةٌ بينه وبين موطني. سأترك ورائي روحاً وكياناً وبقايا طموح ومخاوف كثيرة وأستقبلُ مجهولاً جديداً.
أنا المسئول، ومن أصعب أدوار الحياة أن تكون مسئولاً، أن تُصبح رغماً عنك طوق نجاةٍ لغيرك وجسر أمانٍ لمن وراءك، أن تصير حصناً أميناً وجسراً منيعاً رغم خوفك وضعفك، والأصعب ألا تملك حق الإختيار فلا يكون أمامك سوى الإنصياع لهذا الدور المحتوم فتؤديه على أكمل وجه، لا لإنك مثالي، ولكن لإن من وراءك لا يملكون إلا أن يطمئنوا بك! تطمئنهم وصدرك يغلي من القلق، وتمسح دموعهم بكفيك وقلبك يبكي دماً. تجاهد كي لا تدع ألماً يطوِّف بهم وأنت للأوجاع مستنقع، المهم أن تصمد.
لم يكن نومي مريحاً وتلك الهواجس تخفضني وترفعني. أيقظتني بصوتها الحنون: “أحمد. قم يا ولدي لتأكل شيئاً قبل موعد الطائرة.” الطائرة؟! تردد صدى الكلمة في أذني فأفقت على واقعي الجديد. أنا المسافر، ولقد حلمتُ بالسفر في صغري ونما الحلمُ وترعرع في كنف الحرمان. كنت أطالع السماء في كل ليلةٍ فيأسرني منظر بقعةٍ مضيئةٍ باللون الأحمر تتحرك فتشق السواد الممتد بين النجوم المتلألئة. وكبرت وكبر تعلقي بذاك النور السيار حتى عرفت أنه الطائرة وأيقنتُ أنها يوماً تكون وسيلتي لوجهتي. ولكن ثمةَ غموضٍ موجع يظللُ مستقبلي.
طالعتُ وجهها المنكسر فرقَّ لها فؤادي. آهٍ يا قلبي. لكم أود البقاء لأجلكِ. لكم أودُ أن ألعن الغربة ألف مرةٍ لخاطر عينيكِ اللتين لم تبخلا بدمعهما وأنا أعلم مهما تدارين. “أمرك أمي.” قلتها وأنا أُقَبِّلُ يمناها عسى ارتجافها يسكن. وانصَرَفَتْ إلى المطبخ الذي كان ملاذها الآمن طوال الأيام الماضية فيه تذرف دمعها وتربط على قلبها وتواسي بنفسها نفسها. أمي التي ما حرمتني شيئاً قط، حتى رحيلي لم تعارضه لشغفي به.
نهضتُ وغسلتُ وجهي ولكن وجيب قلبي لم ينفَضّْ وجلس ثلاثتنا أمي وأنا وأختي الصغيرة. لم يكن لي رغبة بالطعام ولكنني أكلتُ بنهَمٍ، أكلتُ حتى شبِعَتْ أمي. كنت ألمحُ عينيها بين اللقمة والأخرى فيعتريني غمٌ وكدرٌ. من سيغذيني بعدك ويهتم لجوعي وشبعي؟ لم أجُعْ يوماً وأنتِ إلى جواري، وأكبر ظني أنني سأجوع وأمرض وحيداً هناك من دونك يا راحتي. بين زوابع الفكر وشجون الخيال ملأتُ معدتي وسددتُ شهيتي لمرةٍ أخيرةٍ ثم قمت لأبدل ملابسي وأستعد للرحيل فبعد ساعة يحضر صديقيّ ليقلاني إلى المطار.
ومرت الساعة كدقيقة وأزف الرحيل. حملت حقيبتي إلى الصالة الضيقة حيث كانت أمي وشقيقتي تقفان. وهنا أنهار السد وانجرف الدمع الذي كان مكتوماً عني لأيام. أخذتني بين ذراعيها ولثَمَتْ وجهي وعيني وجبيني ويدي وكل شبر في جسدي. “يا رب هون علينا مرار تلك اللحظة.” لهج بها فؤادي وأنا مستسلمٌ لأمي تقبلني وتضمني كيف تشاء. أفلتتني يديها ولم يفلتني قلبُها المكلوم. همست كأنها الدهر العتيق يوصيني:
“انتبه لنفسك يا ضنايا. في حفظ الله ورعايته.”
يا ضنايا! ما أعذب هذه الكلمة وأقساها في آن. لم أنتبه لها من قبل ولم تكن المرة الأولى التي أسمعها. زلزلتني وصدعتني وكادت تشق فؤادي. يا ضنايا. أي كلمةٍ هذه؟ وأي حروفٍ نورانية صاغتها؟وأي عاطفةٍ نطقتها؟ أنا الضنى وأنا الضنين وأنا الضان بوجودي على الغالين لأنني المغترب. أنا الذي فرَّ وهَرِب.
ضاق الخناق فما عاد من سبيل سوى عصر الباقي من أيام العمر لأجل لقمة العيش. للحظةٍ شعرتُ بالهلع. ماذا جنيت على نفسي؟ ويلي من الغربة والمجهول. دفنت نفسي في حضنها ووددت لو أهرب من زمني وأرجع طفلاً مرةً أخرى لا يشغل باله البريء شيء، وأسلمت روحي المعذبة لمستقر راحتها لآخر مرة قبل الرحيل. مُكرهاً رفعت رأسي المثقل بالظنون وطالعت وجهها الصبوح. كانت تبتسمُ مشرقةً كشمسِ الأمل عند الألم. لثمت كفيها وخرجت.
أنا الغريب في بلدي. هكذا شعرت مباشرةً بعدما عبرتُ بوابة الجوازات وخُتِمَ في جواز سفري بختم الخروج. حدقت طويلاً في ذلك الختم الأزرق. هكذا ببساطة؟ أصبحت جاهزاً للخروج؟ بهذه السهولة ألقيت الماضي وراء ظهري وهجرت أحبابي وذكرياتي؟ بهذه السرعة صرت واقفاً على حدود المستقبل لوحدي؟ هناك بدأت غربتي رغماً عني. أمسكت هاتفي وكتبت رسالةً أطمئنُ فيها أمي. “الحمد لله أنهيتُ أوراقي وأنا الآن مستعدٌ تماماً وفي إنتظار الصعود إلى الطائرة..
دعواتك يا أمي.” كان قلبي يغلي كمرجلٍ وأنا أضغط أزرار الهاتف وأصيغ الرسالة، وتوقف غليانه تماماً حينما وصلني ردها موجزاً: “لا تجزع يا ولدي.” عجبتُ كيف أقول لها أنني مستعدٌ تماماً وتقول هي لا تجزع! ولكن مهلاً. هل كنت مستعداً فعلاً أم أنني أغالط نفسي؟ أظنها على حقٍ ولكم كنت أحتاج إلى “لا تجزع يا ولدي.” نزلت دمعةٌ حاميةٌ وتشاغلتُ عنها بالصوت الذي ذاع: “النداء الأخير لطائرة المجهول!”
أنا الخائف.
-تمت-
🍂
»» العِبرة
من الأبيات المشهورة في الشعر العربي هذان البيتان:
نَقِّل فؤادك حيث شئتَ من الهوى … ما الحبُ إلا للحبيبِ الأولِّ
كم منزلٍ في الحبِّ يألفه الفتى … وحنينُه دوماً لأولِّ منزِلِ
في نظري ينطبقُ هذا الكلام كثيراُ على حبِّ الأوطان، فالوطن هو الحبُّ الأول للإنسان، هو الحبُّ الحقيقي الذي يصعب عليه أن ينساه مهما سافر وتغرَّب ووقع في حب بلدانٍ أخرى. فالوطن أكثر من مجرد مكان يألفه الإنسان، إنه الأهل والأصحاب والجيران وأيام الطفولة ومغامرات الصِبى وذكريات الشباب، الوطن هو الأرض ومن عليها ومن يسكنُ في ثراها.
لا يملكُ عاقلٌ إلا أن يعشق وطنه. ولنا في رسول الله أسوةٌ حسنة. انظر إليه -بأبي هو وأمي- حين أخرجه قومه من مكة (أحب البِقاع إليه) كيف يقف على مشارفها في هجرته فينظر إليها وقلبه يملؤه الحنين ويقول صلى الله عليه وسلم: “والله إنكِّ لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجت.” وفي روايةْ أخرى: “مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ.” يا لها من كلماتٍ نورانية تنبض بالحبِّ الخالص للوطن الذي وُلِدَ فيه النبي وتربّى وتلقى فوق أرضه رسالة ربّه.
واليوم .. يحلمُ كثيرٌ من الشباب بالهجرة، فتراهم ينامون ويستيقظون وهاجس السفر لا يكاد يفارق مخيلاتهم، كأن بلاد الغربة تفتح لهم ذراعيها وهي تناديهم أن هَلِموا لتنجحوا وتسعدوا وتروا النعيم عندي، فإذا أنت سألتهم “لماذا؟” انهالت عليك الإجابات كالمطر وجميعها تدور حول معنىً واحد قلّما يتغير: “أي مكان غير هنا سيكون أفضل!”. سبحان الله. ومن أدراكَ يا صديقي أن هناك أفضل؟ ومن الذي يضمنُ لك ذلك والحياة في تقلبٍ ودوام الحال من المُحال؟
أذكرُ في طفولتي عبارةً كانت ترددها جدتي – رحمها الله – كلما سافرأحد أعمامي (الغربة كُربة يا ولدي)، وهي عبارةٌ على بساطتها صادقةٌ بدرجةٍ كبيرة. فالغربة بحق كُربة لا يعرفُ قسوتها إلا من ذاق مرارتها. ولقد فمهتُ كلماتها بعدما كبرتُ وقضيتُ من عمري شطراً ليس بالقليل متقلباً في بلاد الغربة.
قد يقول قائلٌ: هذا كلامٌ قديم عفى عليه الدهر، إذا كان يصحُّ في الماضي فهو لا يتناسب مع زماننا، زمن السرعة والعولمة والعالم الذي أصبح قريةً صغيرةً، وحُجتهم أن الغربة قديماً كانت شاقةً ومرهقةً وهي الآن أقربُ ما تكون إلى النزهة أوالرحلة. وهذا كلامٌ غير صحيح، فالغربة هي الغربة سواءً قديماً أو حديثاً أو حتى في المستقبل.
فما الذي يجعل الغربة صعبة؟ من تجربتي الخاصة أقول بقوة أن أصعب ما في الغربة هو إحساسُك الدائم أنك غريب! نعم وألف نعم، أنت بعيداً عن وطنك غريب. ومهما وجدتَ من سبل الراحة ودرجات التقدير والخير الوفير تبقى وتظل غريباً ولو منحوك الذهب. فكلمة “غربة” مشتقةٌ من كلمة “غريب”، فالمغترب أجنبيٌ بغض النظرعما إذا كانت غربته في دولةً عربيةً أو غير عربية، ومن سافر يعرف جيداً ان فرقاً كبيراً بين المواطن والأجنبي. وعلى النقيض تماماً إن وجودَك في وطنك بين أهلك وصحبك وأحبابك مهما كانت الصعوبات والمشاق خيرٌ لك، وربما هذا هو ما دفع الشاعر العربي ليقول:
بلادي وإن جارتْ علي عزيزةٌ … وأهلي وإن ضنوا علي كِرامُ
فالوطنُ مهما جار عزيزٌ ومهما قست ظروفه غالٍ ونفيس، كما أن الأهلَ هم مصدر الأمان ونبع الكرم الصافي وإن ضنوا وبخلوا، فمن ليس له خيرٌ في أهله، محالٌ يجد الخيرفي غيرهم ولو طاف الدنيا كلها.
إذن هل السفر إلى الخارج أمرٌ سيء لا يجب أن نسعى إليه؟ بالطبع لا، ما إلى هذا قصدتُ وما ذلك عنيتُ، ولا تفهم من كلامي أنني أرفض فكرة السفر في كل الأحوال وبكل الطرق، فذلك مما لا يستقيم، فالله عز وجل يقول في كتابه العزيز في سورة الملك: “هو الذي جعل لكم الأرضَ ذَلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور”. صدق الله العظيم. فالله عز وجل أنعم علينا بأن جعل الأرض لنا سهلةً ممهدةً لنستقر فيها ولكي نسعى فيها ونتحرك ونمشي في نواحيها وجوانبها سعياً لكسب الرزق. ولا شك أن السفر من سبل السعي والحركة. ولكن للسفرِ النافع شروط وضوابط بها يأتي ثماره ويحقق مقاصده وغاياته.
وأول هذه الشروط أن يسافر الإنسان بالطرق السليمة، فلا يسعى إليه بالطرق غير الشرعية التي تعرض حياته وحياة الآخرين للخطر، فأي شيء في الحياة يستحق أن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة؟ إذا أردت السفر سافرِ لكن بعدما تكون قد أعددت للسفر عدته من شهادة وتعليم وخبرات وإجراءات قانونية تُسَهِّلُ لك النجاح في الغربة وتقصر عليك المسافات ولا تجعل غربتك عن وطنك أبدية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اعقلها ثم توكَّل.”
ثانياً: إذا أردت السفر فعليك بتحديد غايتك منه قبل البدء فيه. بمعنى، أن تخطط جيداً وتنظر في هدفك من السفر .. هل تسافر بُغية التعلم أو العمل أو الحصول على خبرات أكثر لكي ترجع إلى بلدك اكثر نجاحاً؟ العاقل من تحسس لقدمه خطاها قبل أن يضعها على الأرض. ما فائدة الغربة وأنت لا تدري لسفرك غاية ولا تعرف لنفسك طموحاً غير الفرار الذي يشبه الضياع أو الانتحار؟
ثالثاً: كن واقعياً عند سفرك واعلم أن للغربة ثمنٌ لا شك أنك دافعه، فتركك لأهلك وبعدُك عنهم ثمن، وحرمانك من رؤية والديك ثمن، وطوفان المشاعر الذي يجتاحك وأنت بعيد عنهم ثمن، والصدمة الثقافية التي تتعرض لها في بدء غربتك ثمن، وشعورك بأن غيرك يتحكم فيك ثمنٌ وأي ثمن!! فكن على وعيٍ تامٍ بما أنت مقبلٌ عليه وتحلى بالصبر.
وأخيراً وليس آخراً، اعلم يقيناً أن الغربة ليست نهاية المطاف بل هي مرحلةً في حياتك، وتذكر أن أعز ما يملك المرء كرامته، فلا تتخلى عن كرامتك وكن سفيراً حسناً لبلدك وتخلَّقْ بطَيِّبِ الأخلاق ولا ترضى لنفسك الدنية، وتذكر جيداً أنك:
إذا لم تحفظ لنفسك حقها هواناً بها .. كانت على الناس أهونُ.
سافر إذا شِئَت وإن شئت امكث في بلدك، فالأمر سيان، ولكن لتكن غربتك محسوبة وعلى هدًى مرسومة، ولا ترضى – في نهاية المطاف – بغير وطنك بديلاً. واعلم ان الغربة شأنها شأن كل ما في الحياة، لها ما لها وعليها ما عليها، فيها الخير وفيها الشر، بها المكسب والخسارة، فيها الإيجابيات وفيها السلبيات، وذلك يتوقف عليك وعلى رؤيتك للأمور وقناعاتك ومبادئك. فاختر لنفسك ما تشاء.
والآن لنسأل: هل الغربة اختيار أم اجبار؟ أظنك تعرف الإجابة الآن بنفسك.
🍂