ذكرياتي في رمضان 🌙
ومع النفحات الروحية العطره لشهر رمضان المبارك يفوح شذا عطر الإيمان وتحلو الذكريات الجميلة لشهر الصوم .. وعبر بوابة الجمهورية أون لاين عبر نافذة “المساء” يتجدد اللقاء كل يوم مع رمز من رموز أبناء مصرنا الغالية من العلماء والمفكرين والأدباء والإعلاميين وأساتذة الجامعات.
🌄
بقلم ✍️ ابراهيم الديب (أديب وروائي)
كان يجلس في الماضي وأنا صغير أمام المسجد الكبير ، أعتقد بأنه لم هناك إلا نفر قليل من الناس يتذكره كانت جلسته ظاهرها العمل وباطنها قراءة القرآن ، ليس في شهر رمضان فقط أو في المناسبات، بل يقرأه على مدار العام، بل على مدار عمره المديد المبارك، وكأنه خلق لكي يقوم بهذه الوظيفة الشريفة وهذا الطقس المقدس.
قراءة القرآن تجعل الرجل: يتمايل يمنة ويسرة من شدة الوجد، وكأنه غيب عن الوجود ؛يعزف سيمفونية كونية مقدسة تردد خلفه الملائكة، أو تناغم الرجل مع الكون أثناء تسبيح الكائنات لخالقها ” وإن من شئء إلا يسبح بحمده ” بعد أن سكن القرآن حشاه واستقر بداخله ،كان يمارس هذا الطقس اثناء عمله في مهنته التي يرتزق منها وهي صناعة المقاطف من ؛خوص جريد النخل في ضفيرة محكمة من صنع ماهر خبير بأسرار صنعته, أقف أمامه بالساعات لشدة إعجابي به وهو يمارس عمله بسلاسة وكأنه لا يفعل شيئاً وهو يردد آي الذكر الحكيم, ليس إعجابي بسبب حرفته وفقط التي كنت أعدها أصعب مهنة في الوجود ، فكيف يحول الرجل الخوص إلى مقاطف وأغراض أخرى من خوص جريد النخل تحمل فيها الناس أشيائها؟ كان عمري حينا لا بتجاوز السبع سنوات، ليتجاوز الاعجاب المهنة عند امعاني النظر في وجه الرجل الذي يعلوه نور، اما مصدر النور فهو أعماق الرجل مستقرا به، لتترجم ملامح وجهه ما هو قابع في باطنه، فيعلو وجهه ممزوج بوسامة الخلقة و حسن الخلق ،أما السكينة وهدوء القديسين التي لن تخطئها عين من يختلس النظر إليه حينها يخالجك الشك أنك أمام رجل من أهل الله وخاصته.
أثناء مروري من أمامه، وكثيرا ما فعلت فلم أكن افوت تلك الفرصة، وكنت أحرص عليها بشغف شديد، لعلى اطلع على سر من أسرار الرجل الذي: اكبرته فكان يبدو لي شيخاً مهيبا وقورا جليلا ، كنت أقول هذه الجملة في نفسي . لم أتخيل يوما المسجد الكبير إلا وهو جالس أمامه وخاصة في شهر الصيام، أما ما يبعث على الدهشة في نفسي وعقلي فهو: من أين أتى الرجل بكل هذا اليقين الذي تغلغل بداخله حتي تهون عليه الدنيا ؛ويزهدها بهذه الصورة وكأنه من يملكها, فلم يتركها تتمكن منه ،كانت نظرته تقول للجميع لا أرغب في شئء من دنياكم التي تتصارعون عليها وتتخاصمون من أجلها وكأنه فارقها، ويعيش في الآخرة إلا قليلا وشاهد الجنة ورأى النار من شدة بصيرته فعمل ما يقربه من الجنة ويباعد بينه وبين النار.
لم أشاهده يوما قط يطلب شيئاً من أحد، هل كنت أتخيل أن بقعة الأرض التي كان يجلس بها بكته كثيراً بعد وفاته وأنها ما تزال تنعيه وحزينة على فراقه كلما حل شهر الصوم ضيفا على الزمان؟.