ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لإبداعات وإطلالات أدباء ومواهب أبناء أرض الكنانة..ومعا نبني جسور الأمل والحياة..
وعبر هذه السطور تنشر بوابة الجمهورية والمساء آخر إبداعات الأديبة الكاتبة عزة نصر الدين والتي نسجتها في ثياب القصة القصيرة ،ووسمت بعنوان “ألف ياء “إلحاد”.
🍂
ألف ياء “إلحاد”..!!
“يا عم روح بلا صلاة بلا عبادة، أصلي لمين وأعبد مين بس، مش أما يكون فى رب فى الأصل أبقى أعبده”..
التفت لأنظر من القائل إذ بي أفاجئ به، إنه هو بذاته “ماهر كمال”!، علت الدهشة ملامحي، ودب الرعب فى قلبي، لقد أفزعني جدا ما سمعت للتو، وداهمتني الأسئلة تترى، كيف ؟! ولماذا ؟! لقد كان شابا دمث الخلق، متعبدا لله، لا يترك فرضا يفوته، دائما ما أراه خارجا من مصلى الجامعة فى غالب الفروض؛ ما الذي أوصله لتلك الحالة ؟!.. لولا لحيته الكثة التي تزين وجهه، لشككت بنظري، لكنه هو بالفعل !.
اقتربت ممن كان يتحدث معه للتو، لقد كان يحوقل ويسترجع؛ بعدما دفعه ماهر بعيداً عنه؛ فاختل توازنه مما دفعه للسقوط أرضا، وهو يقول ما قال، ثم ولى ضجرا، لا يبصر أمامه أحدا، على مرأى ومسمع عدد لا بأس بهم من طلاب الجامعة. مددت يدي للشاب الذي كان يحاول النهوض من سقطته، وهو يذكر الله بقلب يأن على صاحبه، الذي أنكر وجود رب لهذا الكون؛ هذا علاوة على بعض السباب الذي يترفع الواحد منا على النطق بها.
بعد أن نهض واقفا واستوى، أخذ ينظف ثيابه مما علق بها من خشاش الأرض، بوجه مكفهر، ولسان لا يفتر عن الاستغفار والحوقلة والحسبنة والتهليل والتكبير، تحسب أن طامة كبرى حلت به؛ فالتمست منه العذر أولاً لمقاطعته، ثم استطردت حديثي سائلاً إياه ما الذي حل بصاحبك؟. ومنذ متى وهو على هذه الحالة؟ أجابني آسفا أنه منذ إعلان النتيجة، وهو كما ترى على هذه الحالة من السخط، والغضب؛ لقد كان من أوائل دفعته على مدار ثلاث سنوات كعادته، دائما ممتاز مع مرتبة الشرف؛ لكن هذا الترم قد وجهت له ضربة قاصمة، لقد وجد نفسه راسبا، وجميعنا فى ذهول، ليس هو فحسب، لم يحتمل الصدمة، وانقلب حاله كما رأيت، قال جملته الأخيرة، وولى مغادرا يبحث عن رفيقه، إلى أين ذهب ؟! فكما جرى على لسانه وهو يوليني ظهره:” أخشى أن يصيب نفسه بأذى”؟ أذى؟ أي أذى الذي سيصيب نفسه به، بعد إنكاره لوجود الله؛ بل وسبابه لكل ما هو مقدس!
أم أن ما أصابه كان فوق طاقته، ليتحمله ؟ ترامى إلى سمعي حديث بعض الزملاء، الذي فهمت من خلاله أنه ابن بلدته، مما جذب انتباهي أكثر؛ لأدقق السمع فيما يقول بنبرة حزن وأسى :
” مسكين ماهر إنه ولد لأب فاسق فاجرسكير، لايدري نهاره من ليله؛ فينام طيلة النهار ويسهر فى الحانات يشرب وبالمقاهي يلعب الطاولة وأحيانا تصل للمقامرة، لا يعلم عن بيته شيئا، لا يدري ثقل الحمل الذي تركه على كاهلي ابنه الصغير الذي يتوسط سبع بنات، وأم ربة منزل لاحيلة لها مع والده، سوى أنها تعتبر نفسها ساترا بين غضب والده المعتاد وفجره، وبين أخواته؛ فتدفع بنفسها كل ليلة لتتلقى الضرب والسباب والقذف والبهتان بأردء الألفاظ وأبشعها، حتى جاء اليوم الذي طمست فيه بصيرة هذا الوالد تماما، وتحول من فطرته لفطرة الحيوانات، حيث انتهز مرض الأم وملازمتها للفراش، حيث لا تقوى على النهوض لتدافع عن بناتها كالعادة، وارتكب جرمه الذي لا يغفر له، حيث انقض على عرضه ليهتك ستره، بيديه، ابنته التي تبلغ من العمر إحدى عشرة عاما، والتي كانت تنام بجوار والدتها المريضة ،ريثما يعود أخوها من عمله الثاني الذي يناوب فيه ليلا، ليوفر لهم ما يسد رمقهم؛ حيث تفاجئ ماهر فور دخوله البيت بصراخ أخته المتقطع، ليهرول مسرعا تجاه الصوت؛ فيجد ما غيب عقله بالكلية، لينقض على والده، يبرحه ضربا، حتى انزلق من بين يديه أرضا غائبا عن الوعي، ليتفقد اخته التي تصرخ فى هلع، ريثما هدأت بين يديه وفى حضنه، ألقى التفاتة على أمه، ليتجمد به كل شعور، وقتما انتبه لنظرة أمه الشاخصة بوجنتين غارقتين بالدموع، لتلفظ أنفاسها الأخيرة، عجزا و قهرا وألما، لتغادر الدنيا حاملة معها كل العذابات التي قاستها لأخر نفس لها بهذا البيت، هم لينهض كي يتحسس جسد والدته، لم يستطع الحراك، فبكى فى صمت، حتى استفاق الجيران من حوله، ليفجعوا بفجيعته المضاعفة؛ فقد لفظت اخته أنفاسها بين يديه نزفا مما عانت، لكن الناظر إليه سيدرك تماما أن النازف كان هو؛ فلقد استنزفت الفواجع منه كل قطرة دم، رغم ذلك قاوم للنهوض على قدميه، ليهيل تراب القبرعلى جثمان أمه وأخته، ليواريهما، من أعين الخلق؛ أما والده فقد لاذ بالفرار فور انتباهه من موتته التي هو عليها، ليذهب حيث لا يعلم له أثر؛ أما ماهر فكان ينام مغمض عين والأخرى ساهرة، فقد كان يغلق على أخواته البيت بغيابه بالأقفال مخافة عليهن شرور الأنس؛ فقد كان يجابه الحياة وخطاطيفها، يعمل ويذاكر ويراعي، وكان أكثر ما يهون عليه، هو حصوله المتلاحق فى دراستة على درجة الامتياز؛
(
ليتثنى له العمل بالجامعة؛ فقد كانت له طوق نجاة، وها هو الطوق قد ضيقوه عليه بظلمهم، حتى انكسر ليتطاير كالشظايا ويتبدد فى اللاشيء، ومعه تبددت كل أحلامه، التي نقشها بقوة على صخرة الحياة تلك، ومادروا أنهم بددوا معها إيمانه ومعتقداته، ليشرد فى طريق لامعالم له، لكن لم يكن هذا فحسب القشة التي قصمت ظهر إيمانه اليوم ؛ فبينما هو ماثل أمام نتيجته ليراها جاءه اتصال من الجيران يبلغونه فيه إن اخته الكبرى بينما هي في البيت جاءها والدهم واستعطفها بكلام الأب النادم والمتحسر على ما اقترف فى حقهم سنوات؛ ليرق قلبها عليه وتحاول ادخاله لينام، حيث أخبرها أنه شريد من ليلة الحادثة لا يجد مأوى، يود أن يستريح وجائع لا يقوى على الوقوف على قدميه؛ فظنته صادقا، أخبرته أن ماهر يغلق البيت عليهم بغيابه كما يرى؛ فواتته فكرة كسر تلك الأقفال والدخول، وقد كان، وريثما دلفت قداماه ورأت حاله الرث وملابسه البالية ووجهه المغبر حتى رق قلبها أكثر فأكثر؛ فأسرعت لتحضر له بعض الطعام الذي بالكاد يكفيهم دونه، لكن طبع القذارة غالبه مرة أخرى؛ وما إن حاول اقتناص الفرصة معها لينال منها؛ حتى ناولته بسكين كانت بيدها، طعنات متتاليه حتى أردته قتيلا ممزقا؛ فقد انكبت على جسده تقطع فيه، وقد ذهلت عن نفسها وعن واقعها وعما تفعل؛ حتى أقبلت أخواتها الأخريات، اللائي أصابهن الفزع من بشاعة المشهد؛ فهرولن خارج البيت تصرخن بسيل من الدموع وبوجه فزع وجسد مرتعد؛ مما استنفر الجيران ليهرووجسد مرتعد؛ مما استنفر الجيران ليهرولوا إليهن ليشهدوا المأساة، وعلى الفور اتصلوا بالشرطه، ليزدحم البيت برجالها وبرجال الطب الشرعي، ويلقى القبض على اخته الكبرى، ولا أثر للأخريات؛ فحينما جاءت الشرطة، يبدو أنهن ظنن أنهن سيلقين بالسجن مع اختهن؛ فلاذاتا بالفرار، ولا يعلم إلى أين ذهبن ..
فكل ما سبق سماعه من نائبات حلت به، تجعل الجبال الشاهقات تخر من هولها؛ فكيف بهذا الإنسان الضعيف، إن لم يدخر بداخله قوة هائلة من الإيمان؛ أن له أن يجابهها !
فلسان حال ماهر الآن ينطق بجملة واحدة فقط لا غيرها “أضحيت ملحدًا”.