بقلم ✍️ منال العبادي (كاتبة وناقدة أردنية)
كيف وظف جلال برجس “الميكانيزمات” الدفاعية لمواجهة القلق والتهديدات
ويتواصل اللقاء مع إبداعات ومواهب أبناء أرض الكنانة والأدباء العرب من مختلف بقاع الوطن العربي وتنشر بوابة “الجمهورية والمساء” أون لاين رؤية نقدية للأديبة منال العبادي حول رواية “معزوفة اليوم السابع” للكاتب جلال جرجس.
🍂
في عالم يموج بالصراعات والآلام، حيث يخيم الظلم وتتكاثر الشرور، يجد الإنسان نفسه مضطرا إلى ابتكار وسائل نفسية للتعايش مع هذه القسوة. فكيف يمكن للإنسان أن يحيا بسلام وسط هذا الكم الهائل من المعاناة؟ وكيف يصوغ الأدب، ممثلًا في الرواية، هذه الآليات النفسية التي نلجأ إليها كحصنٍ واقٍ من صدمات الواقع؟
تقدم رواية “معزوفة اليوم السابع” للكاتب جلال برجس نموذجا عميقا لاستكشاف هذه “الميكانيزمات” الدفاعية التي يتبناها العقل البشري لمواجهة القلق والتهديدات ،فمن خلال شخصياته المعقدة، يسقط برجس أضواءً كاشفة على آليات مثل الكبت، الإزاحة، التعويض، الإنكار، والإبدال، ليُظهر كيف يحاول الإنسان، رغم هشاشته، أن يجد توازنا وهميا في عالمٍ يفترسه الخوف..
فكيف وظف الكاتب هذه الديناميات النفسية في نصه الروائي؟ وما الذي تكشفه لنا عن طبيعة الإنسان وهواجسه؟.
سؤال يطرح نفسه :
كيف نعيش (نتعايش ) نحيا ونمرح ونتكاثر ناكل ونشرب بكل هذا الشعور من الراحة في عالم ملئ بهذا السوء وهذه الخطورة؟!
الإجابة اننا نخدع أنفسنا وهو سلوك نخفض به مستوى التوتر والقلق.
يتخذ الأسلوب اشكالا متعددة إما عدوانية او انسحابية تدميرية او تحويليه او ان يتخذ شكلا آخر مختلف.
عالم قاس ومرعب الخطر موجود في كل زاوية فيه.
اخبار سيئة تنهال كالمطر، أمراض خطيرة، جرائم…. الخ والغلبة أصبحت للأشرار.
رواية معزوفة اليوم السابع هي عبارة عن منظومة فكرية تبحث وتبين المعنى الإنساني واللانساني في الحياة.
و تسليط الضوء على الإنسان إلى أين؟!
إن العقل الباطن يستخدم استراتيجيات نفسية لحماية الفرد او الشخص من أفكار ومشاعر مرفوضة.
هذه الاستراتيجيات يطلق عليها مكانيزمات
تحاول إيجاد الحلول والتكيف مع التوتر ومسايرته.
كما أنها تعمل على حماية الذات من أي تهديد لشيء ذو قيمة لديه.
هذه الميكانيزمات(ديناميات نفسية) يستخدمها الإنسان كوسيلة دفاعية لتجنب الألم والتحرر من الصراعات النفسية الداخلية والخارجية او وسائل دفاع تتبلور عن طريق العقل اللاوعي حيث يقوم بانكار الحقيقة والتلاعب بها.
من الميكانيزمات الدفاعية التي اسقطها الكاتب على شخصياته :
*الكبت : هذه احد آليات الدفاع حيث أن الشخص لا يستعيد أفكاره وذكرياته المزعجة إلى مرحلة الوعي لتقليل مشاعر القلق.
وهذا نجده في شخصية توليب التي تعرض أهلها لحادث مأساوي في طولتها وقتل جميع أهلها.
وفي شخصية شاندارو حيث يتجه إلى شرب الخمرة احيانا للهروب من واقع يرفضه.
وفي شخصية روبين… وغيرها من الشخصيات.
*الازاحة:
هو مصطلح يعمل بشكل لاواعي في العقل ويمثل عواطف وافكار أو حتى رغبات تستخدم لتهدئة القلق.
حاول الكاتب ان يوضح ذلك في الضغط الذي يواجهه اهل المخيم من اهل المدينة وينقلونه لابنائهم وزوجاتهم.
فهي عملية نقل للمشاعر من فئة أقوى الى الاضعف فالاضعف
*التعويض .
وهي ان يحاول الشخص النجاح في ميدان ما لتعويض اخفاقه او عجزه (الحقيقي /أوالمتخيل) في ميدان آخر أشعره بالنقص وان يظهره بصورة مقبولة.
نجد ذلك واضحا في شخصية “باختو”
الأنيق الوسيم القارئ المثقف عاشق الموسيقى التي يتراقص على انغامها ليغطي عقدة نقص انه غجري من مخيم الغجر.
الإنكار وهو إنكار لا شعوري لواقع مؤلم وكل مافيه مسبب للقلق والضعف في مواجهته النعام التي تدفن رأسها بالرمل خوفا من المواجهة.
وهذا كان واضحا في عدم قدرة سكان المدينة مواجهة مشكلة فقدان حواسهم أشكالهم في المرايا وتوجهوا هنا للانتحار او اللامبالاة المصطنعة.
*التسامي او الاعلاء :وهو خلق الابداع من عمق المعاناة.
نجد ذلك عند جماعة الطائر الأسود التي تستخدم جميع الأساليب غير المقبولة واستبدالها في عزك نجاحها بأساليب غير مقبولة اجتماعيا اخرى.
فهنا استبدال السئ بالسئ للوصول لما يريد
في النهاية، تظل رواية “معزوفة اليوم السابع” مرآةً عاكسةً للصراعات النفسية التي يعيشها الإنسان في مواجهة عالمٍ قاسٍ. فمن خلال الميكانيزمات الدفاعية التي نحتها جلال برجس في شخصياته، نكتشف ذلك التناقض الإنساني بين الرغبة في البقاء والهروب من المواجهة.
إنها رواية لا تروي حكاية شخصيات فحسب، بل تُجسد أزمتنا الجماعية مع الخوف والضعف، وتُذكّرنا بأننا، رغم كل آليات الدفاع، نبقى عُرضةً لهشاشتنا.
وهكذا، يصبح الأدب هنا ليس مجرد سردٍ، بل فضاءً لتشريح اللاوعي الجمعي، حيث تتحول الميكانيزمات النفسية إلى أدوات سردية تكشف عن العمق المظلم للإنسان. فهل ننجح يومًا في مواجهة ذواتنا دون حاجة إلى هذه الأقنعة؟ أم أن الخداع الذاتي هو الثمن الذي ندفعه مقابل استمرارنا في لعبة الحياة؟ سؤال تتركه الرواية معلقًا في الهواء، كصدى لألمٍ لا ينتهي.