# من أول السطر
في عالم ما بعد الحداثة حيث التغيرات اللامحدودة والتقلبات اللحظية المتسارعة تواجه عناصر منظومة الإعلام تحديات جمة، ولم تعد الرسالة الإعلامية في أيد أمينة وفقا لقواعد وضوابط مهنية تحكم عمل القائمين بالإتصال وحراس البوابات ومحددات الرسالة وعناصرها، وعلي رأسها الدقة والصدق والموضوعية والشمول.
وكما كان في السابق إبان الأزمنة الغابرة..هل يتصور أحد أن يتخلي الإعلام العصري عن قيمه وصوره التقليدية ويعود يوما في أيدي فئة من المؤثرين وقادة الرأي ،كما كان في السابق حين كان يمتلك هذا الامتياز ثلة من الرحالة والتجار والبصاصين وكبار رموز القبائل والعشائر والعائلات، ومن ثم كانوا يتحكمون فيما يقال وفي توقيته وما يتم حجبه !
في تقديري أنه في عالم العصر الرقمي فهناك استحالة في حجب المعلومات بصفة نهائية، لكن من السهل جدا تشويه الوقائع والأحداث بالمبالغة في توصيفها وإجتزاء البعض أو الكثير من الحقائق والمشاهد الفعلية وتقديم سرديات مشوهه، في سياقات موجهة وإضفاء نوع من المصداقية المزيفة.
ومن ثم يتخوف بعض خبراء الاعلام مما هو قادم في المستقبل المنظور مع تصاعد فئة المؤثرين والمضللين الذين ارتدوا ثياب قادة الرأي وتصدوا لتقديم كافة صنوف المواد الإعلامية من خبر وتقرير وصور وتحليل.. الخ..
كما يتساءل أبناء المهنة ـ في غصة وحيرة وتوجس ـ هل ابتكار وسائل الإعلام الاجتماعية سيضعف مع مرور الزمن من قدرة المؤسسات الإعلامية بمختلف روافده الرسمية والحزبية والخاصة لتقديم إعلام عصري محايد ومتوازن ؟!.
حقيقة الأمر كما تجسدها المتابعة الموضوعية للواقع الإعلامي وتطوراته ،أن هناك منافسة شرسة وحادة بين الإعلام في صوره التقليدية وبين هذا السيل المتدفق من إعلام المواطن “المنفلت” المتحرر من قيود القوانين واللوائح المنظمة، والمسؤولية المجتمعية في كثير من الأحيان !.
هذا السباق المحموم لتحقيق السبق والأرباح يأتي غالبا علي حساب دقة المعلومات وموضوعية الطرح وعمق وشمول العرض والتحليل والمعالجة المتكاملة للقضايا والأحداث بغية الوصول إلى حلول ومقترحات وأطروحات، لا مجرد تحقيق السبق وتوصيف الحدث، وإلباسه ثياب الإثارة ، والبحث عن حفنة من “الدولارات” وزيادة حصيلة المشاهدات، ولتذهب كافة المعايير المجتمعية ومعها القيم الإنسانية إلي الجحيم!.
في تصوري أن “إعلام المواطن” تجاوز مرحلة المشاركة الإيجابية الفاعلة وبدأ متجها نحو الدخول في المحظور، كأداة في أيدي بعض المرجفين والخراصين الجدد لإخضاع الدهماء ومحدودية التفكير وتلويث الوجدان عبر بث مضامين مغرضة، وصناعة وتوجيه الرأي العام !.
ومن دفتر أحوال الواقع، فكل المؤشرات تشير بأن إعلام المواطن أمسي سلاحا خطيرا ذا حدين، فهناك حالة غير مسبوقة من الإنقلات الإعلامي تسببت في قدر كبير من البلبلة والإضطرابات الفكرية لدى المواطنين..
يكفي أن تتصفح صفحات شبكات التواصل لتصدم بعشرات وعشرات من الاخبار والمعلومات المضللة والمزيفة، يتعجل بعض المؤثرين وقادة الرأي نشرها ويشاركهم في هذا الجرم وانطلاقا من مصداقيتهم الكاذبة، آلاف المتابعين، حيث تتم المشاركة و تدوين التعليقات علي نطاق واسع!.
وتسهم آليات وخوارزميات النشر الخبيثة في انتشار هذه المضامين “المضللة” وانتشارها كالنار في الهشيم !.
ويبدو أن ضبط الأداء الإعلامي عبر مختلف روافد إعلام المواطن، يتطلب جهودا حثيثة علي مختلف المستويات لضبط الأداء والتقليل من هذا الكم الهائل من الاخبار والمعلومات المضللة والذي اتخذ صورا عديدة من واقع المتابعات الإعلامية ،من بينها:
ـ نشر أخبار وفيديوهات قديمة لوقائع قديمة والإدعاء بأنها حدثت منذ دقائق أوساعات .. والأمثلة كثيرة مثل نشر مشاهد للحرائق والعواصف والبراكين والزلازل ، ونشر مقاطع عنف متكررة وصور من أعمال البلطجة والادعاء وتعاطي المخدرات بهدف الإثارة وجلب المشاهدات.
ـ تعمد إجتزاء الحقيقة لـ”حاجة في نفس يعقوب”، بنشر جانب واحد من الرواية أو تبني سردية ملفقة أو غير مكتملة العناصر.
ـ الاعتماد على الحجج العاطفية وأحيانا الإنسانية بطرق ملتوية.
ـ تقمص دور “المسؤول”، الجهات الرسمية في الرد علي مستجدات الأحداث ، والترويج الانتقائي لبعض من التصريحات لغير المتخصصين، ممن ليس لديهم الإلمام الكاف بتداعيات الاحداث وتطوراتها وأبعادها المختلفة.
ـ المتاجرة بالصور والمشاهد الإنسانية في إستجداء فج لجمع آلاف المتابعات والاعجابات!.
ـ غرس مشاعر القلق والخوف والفزع المبالغة فى توصيف الواقع، وبأن المواجهات العسكرية قادمة لا محالة مع الكيان الصهيوني، وأحيانا وضع سيناريوهات شاذة لتصاعد الأحداث.
ـ توظيف مشاهد مركبة مع أخري حقيقية، وإنتاج “ڤيديوهات” مزيفة غير أصيلة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والعقول الموازية.
ـ استمراء النقد والمراء والجدل غير المجدي، واحيانا الردح وتصفية الحسابات، عن طريق التنابذ بالألقاب والسباب والشتائم وأحيانا التهديد والوعيد المتبادل.
ـ الشماته في المرض والموت، وتعمد الإساءة إلى بعض الرموز الوطنية ممن رحلوا وممن هم علي قيد الحياة.
ومن مثلة فوضوية إعلام المواطن:
ـ الترويج للشائعات ونشر الأخبار والكاذبة.
ـ المبالغة في رصد الأرقام والإحصائيات والاعتماد علي مصادر غير موثقة.
ـ غياب الدقة والشمول والمتابعة للأحداث والتلاعب بالألفاظ الإيحاء بعكس الحقيقة.
هذا غيض من فيض إعلام المواطن الجامح والذي أفسد وجدان المصريين ويحاصرهم ليلا ونهارا، بلا هواده ودون أية مراعاة للمسؤولية المجتمعية بمفهومها الواسع وحتي إشعار آخر!.
ولعل من أسباب فوضوية إعلام المواطن:
ـ سهولة النشر: يمكن لأي شخص نشر المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي بسهولة.
ـ غياب الرقابة: مما يؤدي إلى انتشار المعلومات الخاطئة.
ـ الاهتمام بالشهرة أو الربح: يمكن أن يكون الاهتمام بالشهرة أو الربح سببا لنشر المعلومات الخاطئة.
أنها ظاهرة عصرية بالغة الخطورة تدعمها خلايا فاسدة من أعداء الوطن، علاوة علي رغبة الكثيرين في الحصول علي السبق وتحقيق مكانة مجتمعية مزيفة، أو تفريغ بعض الضغوط النفسية والاجتماعية وتقمص دور الإعلامي ، أو المرشد الناصح الأمين!.
وأتصور أن المحرك الأكثر فعالية هو الفهم الخاطيء لمفهوم حرية التعبير وحرية المشاركة والإبداع دون إدراك لأبعاد المسؤولية الاجتماعية والمردودات السلبية لهذه النمط الشاذ من الإعلام البديل!.
إن فوضوية إعلام المواطن أمست ظاهرة تتطلب الدراسة والتوعية بمخاطر الاستخدام والتوظيف الخاطيء لمختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثم المواجهة الحاسمة، لما لها من تأثير المباشر وغير المباشر على الرأي العام، وإحداث ضرر بالسمعة، وانتهاك حرمة الحياة الخاصة وتكدير السلم العام.
ولعل من أهم مساوئ فوضوية صحافة الأفراد ، وهذه الموجات العصرية المنفلته من “إعلام المواطن”، هو تعزيز الإضطراب النفسي والقلق وخلق حالة من الجدل وعدم اليقين وضبابية المستقبل القريب والبعيد.
والخطورة تتزايد كل يوم الاستخدام المفرط لوسائل الإعلام البديلة في ثيابها “الضالة المضلة”، وبحسب إحصائية تم الإشارة إليها في مجلة Business Insider الرقمية الأمريكية أن كثيرا من الأفراد، وخاصة المراهقين، ما بين 13 – 18 سنة يقضون حوالي 9 ساعات يوميا في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ، وفي بلادنا العربية ربما تزيد هذه الساعات التي يقضيها النقارون “جيلZ” و”جوجل” إلي الضعف، الأكثر عرضة لتأثير المضللون والمؤثرون السلبيون، فمن المسؤول.. وماذا بعد!.
ولمواجهة هذا الإنفلات فهناك حتمية عصرية لتعزيز الوعي الإعلامي العام لدى الأفراد من القائمين بالإتصال والمتلقين علي حد سواء، لتمييز المعلومات الدقيقة من غير الدقيقة، وإعداد دورات متخصصة للمؤثرين تؤكد أهمية الكلمة وخطورتها والتحقق من المعلومات والاعتماد على مصادر موثوقة وغيرها من ضوابط الإعلام المتوازن.
وأتصور أن الأمر يتطلب تقييما لمختلف المواقع وإصدار توصيات بهذا الشأن وتغليظ عقوبة نشر الأخبار الكاذبة والمضللة، ومن قبلها تعزيز الوعي الأسري بأهمية ترشيد الاستخدام “الذكي” لمختلف شبكات التواصل الاجتماعي ونشر ثقافة التعرض الانتقائي ودعم الرسائل الإيجابية وتجنب أراجيف المغرضين والصفحات الموجهه وتحري الدقة فى متابعة الأحداث وتطوراتها من مصادرها الرسمية الموثوقة، وعدم الثقة برسائل الاعلام البديل..وهو أمر ليس صعب المنال.
وتظل المصداقية والمعلومة الصحيحة هي الدليل لفهم حقيقة الأحداث، والكلمة كالطلقة لو خرجت من المستحيل أن تعود مرة ثانية!
(