في قلب بلاد الحضارة والتاريخ، حيث أشرقت شمس المعرفة على البشرية منذ آلاف السنين، تتخفى تحت أستار التقاليد البالية والفقر، وصمة عار اسمها “زواج القاصرات”. في عام 2025، ونحن نقف على أعتاب مستقبل مُشرق، يظل هذا الظل الكثيف يُلقي بظلاله على حياة آلاف الفتيات المصريات، يسرق منهن براءة الطفولة وأحلام المراهقة، ويُلقي بهن في أتون مسؤوليات لا طاقة لهن بها. إنها كارثة بكل المقاييس، فكيف لبلد يمتلك تاريخاً شامخاً أن يسمح بمثل هذا الانتهاك الصارخ لحقوق أجياله القادمة؟
لنبدأ بالأرقام التي تُنذر بالخطر، فالإحصائيات، وإن كانت جزئية بسبب طبيعة هذه الزيجات غير الموثقة، تُعطي لمحة عن حجم المأساة. تشير تقديرات اليونيسف إلى أن حوالي 17% من الفتيات في مصر يتزوجن قبل بلوغهن سن 18 عاماً، وهو السن القانوني للزواج. الأرقام الأكثر إثارة للقلق هي تلك التي تُفيد بوجود نحو 117 ألف حالة زواج سنوياً لفتيات دون 18 عاماً، حسب تقديرات غير رسمية تُشير إليها بعض الدراسات. هذه ليست مجرد أرقام؛ إنها آلاف “فاطمة” و”زينب” و”مريم”، يُجبرن على ارتداء ثوب الزفاف بدلاً من زي المدرسة، ويُصبحن أمهات قبل أن يُدركن معنى الأمومة.
الأخطر من ذلك، أن معظم هذه الزيجات لا يتم توثيقها رسمياً. تتخيلون الكارثة؟ فتاة قاصر، تُزوج بعقد عرفي لا يحمي حقوقها، وإذا ما أنجبت طفلاً، فإن هذا الطفل يُولد بلا نسب قانوني لأمه وأبيه، إلا بعد بلوغ الأم سن الثامنة عشرة ورفع دعوى إثبات نسب. إنها دائرة مفرغة من المعاناة، تجعل من الطفل “ضحية” قبل أن يُولد، وتُضيف عبئاً قانونياً ونفسياً واجتماعياً هائلاً على كاهل أم لم تبلغ بعد سن الرشد. إنها جريمة تُرتكب بحق البراءة، وتُلقي بظلالها على مستقبل أجيال كاملة.
لفهم هذه الظاهرة، لا بد لنا أن نغوص في أعماق النظريات الاجتماعية. تُقدم لنا نظرية التبعية الاجتماعية
(Social Dependency Theory) تفسيراً مقنعاً
لانتشار زواج القاصرات، خاصةً في المجتمعات الفقيرة والمهمشة. تُشير هذه النظرية إلى أن الأفراد والمجتمعات يُصبحون تابعين لظروف معينة أو لسلطة أعلى بسبب نقص الموارد أو الفرص. في سياق زواج القاصرات، تُصبح الفتاة القاصر، في كثير من الأحيان، أداة للحد من العبء الاقتصادي على الأسرة الفقيرة. تُرى الفتاة كـ”سلعة” يمكن التخلص منها بزواجها لتخفيف الضغوط المالية، أو كوسيلة للحصول على “مهر” يُساهم في تحسين الوضع الاقتصادي للأسرة. يصبح مستقبل الفتاة وثمن براءتها مرهوناً بالحاجة الاقتصادية، وتُصبح تبعيتها لأهلها وزوجها لاحقاً أمراً حتمياً. كما أن الأسر نفسها قد تكون تابعة لتقاليد اجتماعية راسخة أو دينية مغلوطة تُشجع على الزواج المبكر، وتُضفي عليه مشروعية زائفة تحت شعار “الدين” و”الستر” و”الحماية”. هذه التبعية المُركبة، الاقتصادية والاجتماعية والدينية، تُغلق الباب أمام أي فرصة للفتاة للتحرر أو لاتخاذ قرارات تخص مستقبلها.
بعيداً عن النظريات، فإن الآثار المترتبة على زواج
القاصرات هي كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة. تُعد الفتاة القاصر جسداً غير مكتمل النمو، مما يجعلها عرضة لمضاعفات صحية خطيرة أثناء الحمل والولادة؛ تُشير الأرقام إلى أن وفيات الأمهات بين الفتيات دون 18 عاماً تُعد أعلى بخمس مرات من النساء الأكبر سناً. ناهيك عن الأمراض الجسدية والنفسية التي قد تُلازمها طوال حياتها. كذلك، يُعد الزواج المبكر نهاية مبكرة لمسيرة التعليم، حيث تُحرم الفتاة من أبسط حقوقها، وهو الحق في التعلم، الذي يُعد مفتاح التحرر والتطور. كيف يمكن لفتاة لم تُكمل تعليمها أن تُربي أجيالاً واعية ومُتعلمة؟ الأسوأ من ذلك كله هو المستقبل المسلوب، حيث تُجرد الفتاة من أحلامها وطموحاتها وتُصبح محصورة في أدوار الزوجة والأم في سن لا تُدرك فيها حتى معنى هذه الأدوار، مما يُفقدها فرص النمو الشخصي والمهني، ويُحد من قدرتها على المساهمة الفعالة في المجتمع. وأخيراً، تُصبح الفتيات المتزوجات في سن مبكرة أكثر عرضة للعنف المنزلي، لضعف موقفهن وتبعيتهم المطلقة لزوج أحياناً يكبرهن بسنوات كثيرة.
نحن في 2025، ولا يليق ببلد يمتلك تاريخاً بحجم مصر أن يُواجه هذه الكارثة بهذا الصمت. إن الحل ليس مستحيلاً، ولكنه يتطلب إرادة قوية وجهوداً مُتضافرة. أولًا، يجب تطبيق القانون بحزم وبلا هوادة؛ فلدينا قوانين تجرم زواج القاصرات، لكنها بحاجة إلى تفعيل حقيقي على أرض الواقع. يجب تشديد الرقابة على مأذوني الأنجال والمحامين المتورطين في زيجات عرفية، وتوقيع أقصى العقوبات على كل من يشارك في هذه الجريمة. يجب أن تُفعَّل دور النيابة العامة والمجلس القومي للأمومة والطفولة في تتبع هذه الحالات وتقديم المتورطين للعدالة. ثانياً، التعليم أولاً وأخيراً؛ فالتعليم هو السلاح الأقوى ضد الجهل والفقر والتقاليد البالية. يجب توفير فرص تعليمية ذات جودة عالية للفتيات في جميع أنحاء مصر، خاصة في المناطق الريفية. يجب أن تكون هناك حوافز للأسر للإبقاء على بناتهن في المدارس، مثل منح مالية مشروطة بالحضور المدرسي، أو برامج دعم تعليمي. ثالثاً، التمكين الاقتصادي للأسر والمرأة؛ يجب أن تعمل الدولة ومنظمات المجتمع المدني على توفير فرص عمل وتنمية اقتصادية للأسر الفقيرة، وخاصة للأمهات والنساء. عندما تكون المرأة قادرة على إعالة نفسها، تقل فرص إجبار بناتها على الزواج المبكر. برامج المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتدريب المهني، هي أمثلة على هذه الحلول. رابعاً، حملات توعية مكثفة ومبتكرة؛ يجب أن تصل رسائل التوعية إلى كل بيت، وأن تُستخدم لغات وأساليب مُناسبة لكل فئة اجتماعية. يجب الاستعانة بالدراما والفن والرموز الدينية والمجتمعية المؤثرة لتغيير المفاهيم الخاطئة. يجب أن تُوضح هذه الحملات بوضوح الكوارث الصحية والنفسية والقانونية لزواج القاصرات. خامساً، تفعيل دور المجتمع المدني والشيوخ والقساوسة؛ فللمجتمع المدني والمؤسسات الدينية دور محوري في تغيير الفكر المجتمعي. يجب أن يُشارك الشيوخ والقساوسة في حملات التوعية، وأن يُوضحوا بوضوح أن زواج القاصرات يُنافي قيم الأديان التي تدعو إلى الرحمة والعدل وحماية حقوق الطفل. وأخيراً، تبسيط إجراءات تسجيل المواليد؛ لتفادي مأساة الأطفال غير المسجلين، يجب تبسيط وتسهيل إجراءات تسجيل المواليد بشكل كبير، مع توفير الدعم القانوني للأمهات القاصرات لتسجيل أطفالهن، حتى لو تم الزواج بشكل غير قانوني، وذلك لضمان حقوق الطفل أولاً.
إننا في 2025، وهذا لا يُجبرنا على قبول هذه الوصمة. إن مصر العظيمة، التي علمت العالم الحرف والفن والعلم، يجب أن تكون في طليعة الدول التي تحمي براءة أطفالها وتصون كرامة بناتها. فلتكن هذه الكارثة دافعًا لنا جميعًا للعمل، حتى تُصبح كل فتاة مصرية قادرة على العيش في كنف التعليم والأمان، بعيدًا عن شبح الزواج المبكر، ولتُشرق شمس المستقبل على جيل كامل من الفتيات القادرات على بناء مصر التي نحلم بها.