# من أول السطر
في عالم مضطرب، ووسط موجات عاتية من الضبابية والعشرات من علامات الإستفهام، وغياب التوافق والرؤية الأممية الكاشفة، و”عدم اليقين”، والتي عمقت آثارها رياح المتغيرات والتحديات المتلاحقة بدأت الكثير من الدول والكيانات التفكير جليا في المستقبل المنظور، واتخاذ إجراءات وقائية لتداعيات عدم الاستقرار.
كما ترددت هنا وهناك ووراء الكواليس أفكار وأطروحات حول التدابير العقلانية والمنطقية الواجب اتخاذها للتكيف مع هذه الموجات والتقلبات.
كما طرحت للبحث والمناقشة خيارات استراتيجية نحو أهمية مراجعة كافة السياسات والمواقف، أو اتخاذ إجراءات حمائية تتمحور في فرضية التقوقع والإنزواء، والإنكفاء علي الذات، وربما التوقف لإلتقاط الأنفاس أو العودة للخلف قليلا لترتيب الأوراق قبل إتخاذ أية قرارات مصيرية تضارع هذا الزخم الكبير، وهذا السيل الجارف من الأحداث وتطوراتها المتلاحقة!.
وفي وقت كانت شعوب العالم تأمل في التوصل إلي هدنة دهرية بانتهاء النزاعات الكبري وعلي رأسها أزمة أهل غزة ومأساة الإبادة الإنسانية، أو حتي التوقف ولو مؤقتا، مع ظهور بوادر مصالحات بين أوكرانيا وروسيا وهدوء حدة التوتر بين أمريكا وروسيا، اعتبارا من بداية الحقبة الترامبية، لكن بين عشية وضحاها انقلب الحال رأسا علي عقب وذهبت الأماني أدراج الرياح!.
وإذ بمجموعة جديدة من الصدمات الأممية وعلي رأسها النكسة الروسية نتيجة الضربة العسكرية الضخمة قبل عدة أيام والتي تسببت في خسائر عسكرية فادحة قدرت بما يزيد عن 7 مليارات دولار وفقدان موسكو لجزء كبير من أسلحتها ومنصات إطلاق الصواريخ وطائراتها المقاتلة وأسلحتها الاستراتيجية فائقة التطور ، علاوة علي تفجير جسر القرم، وتقويض جهود مفاوضات السلام!.
وبات العالم ومن جديد في حالة من الترقب والتوجس وانتظار ردود أفعال انتقامية قاسية من روسيا وسط تهديدات ربما تأكل الأخضر واليابس، بعدما نالت موسكو لطمة قوية وشعرت وكأنه تم تخديرها مؤقتا بأوهام السلام، وتم تنفيذ عملية “شبكة العنكبوت”، والتي أعلنت اوكرانيا أنها كانت تخطط لها منذ ما يزيد عن عام ونصف!.
ومع هذا التصعيد الخطير وتلك الضربات القاصمة سيواجه العالم لامحالة حرب تكسير عظام وأزمات جديده وحروبا متعددة الأبعاد.
وبظلال سلبية علي المشهد المتشابك ألقي عودة التوتر بين الهند وباكستان، وتعقد الملف الايراني وتعثر المفاوضات حول أسلحتها النووية، علاوة علي تعقد التوصل لحلول لأزمة قطاع غزة ووقف إطلاق النار، وإيجاد تسوية عادلة ونهائية للقضية الفلسطينية، كلها مؤشرات سلبية لا تبشر بإنفراجة في المستقبل القريب.
بعض المفكرين وأتفق معهم تماما يرون أن هناك قوي رأسمالية كبري يتجاوز نفوذها حدود الدول تعمل طوال الوقت لإشعال أتون هذ الصراعات والاضطرابات اللامحدودة لتحقيق أهداف استراتيجية محددة سلفا، وتتجاوز مخططاتها إدراك البسطاء من بني البشر.
ويري البعض أن ما يحدث في العالم نتاج طبيعي وختام متوقع لبودار انتهاء فترة “العولمة”، وبدء مرحلة “ما بعد الحداثة”، بقوانينها وأدبياتها غير المعتادة.
ورغم مساويء “العولمة”، وتكريسها لهيمنة بعض الأطراف الفاعلة، لا ريب أنها أتاحت قدرا كبيرا من التعاون الدولي والتكامل، وفقا لآليات المصالح خلال الخمسين عاما الأخيرة بعد سنوات من الجمود والصراع، والذي أعقب الحرب العالمية الثانية.
في اعتقادي أنه في زمن التحولات الكبري في عالم مابعد الحداثة التي تعتمد على تعدد التفسيرات وعدم وجود معنى ثابت أو نهائي تتراجع فرضيات الاعتقاد بأن الأحدث هو الأفضل، وما هو كائن لابد وأن يكون هو الصواب!.
نعم البشر يعانون، ولكنهم يمتلكون أيضاً القدرة على التغيير ومجابهة اللاتوقّع وعدم الثبات!.
إن ما بعد الحداثة لا يمكن التنبؤ بمساراته لانه يرفض الثبات ويسعى إلى كسر القوالب والتقاليد المعرفية الراسخة.
كما يرى بعض المتشائمين أن العالم قادم لا محالة علي مرحلة جديدة لما بعد العولمة، وربما خوض غمار حرب عالمية جديدة بمواصفات عصرية مغايرة قد تتخذ مسارها عبر المنافسات التقنية المحمومه والهجمات السيبرانية، وربما النووية المحدودة.
ولا ريب أن ميدان الصراع الأكبر سيكون عبر مفردات حرب الهيمنة التجارية بين الدول الفاعلة، والتي تشهد شدا وجذبا، مع بدء مرحلة جديدة من الاستقطاب الحاد وتفعيل دور تكتلات إقتصادية للوقوف في وجه الصلف الأمريكي المتصاعد.
وتبقي التأثيرات الاقتصادية تتجه نحو الأسوأ، كما حدث إبان اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل سنوات، وسط توقعات بتعطل سلاسل الإمداد من جديد وتأثيرات سلبية علي حركة التجارة البينية الدولية، وتزايد ارتفاع أسعار الزيوت والحبوب وعودة أزمات الغذاء من جديد، خاصة مع تنامي التأثيرات المناخية التي تضرب بقوة أيضا، وهي من حصاد أفعال البشر وتسهم أيضا وتدريجيا في تعميق حجم الأزمات والنكبات والشدائد الأممية!
وفي تقديري أن تلك الحالة الراهنة لعدم اليقين في الحاضر والمستقبل حصاد طبيعي لغياب العدالة الأممية وتراجع دور المنظمات الدولية وإيجاد حلول حاسمة للقضايا الإنسانية والنزاعات الإقليمية والحدودية، علاوة علي حرب الرسوم الجمركية وتوقعات شبح الركود والتضخم وتراجع معدلات النمو، وتنامي ظاهرة الفقاعات، والتقييم غير العادل لأسعار السلع والخدمات وكافة المنتجات.
كما أن هناك رغبة جارفة للولايات المتحدة الأمريكية في غرس القلق والتوتر في بقاع عديدة من المعمورة، لإعادة تشكيل خريطة التوازنات السياسية والاقتصادية بضربات استباقية، للخروج من أزماتها ..
علي الجانب الآخر ، ظهرت في الأفق بوادر تمرد أوروبا علي الولايات المتحدة للتحرر من الهيمنة
والخروج من عباءة التبعية المطلقة، بينما تعد الصين العدة والعتاد لخوض حرب استراتيجية طويلة الأمد، ربما تتخذ بعدا تجاريا، وعسكريا لو تطلب الأمر!.
ومن جانبها تضرب الدول الناشئة أخماسا في أسداس، وتطمح للاستغناء وتعيد التفكير في البديل وتعزيز الإنتاج المحلي وتقليص الواردات وعدم التفريط في موادها الخام وخاصة المعادن النادرة، ومن ثم تخفيف حدة الضغوط الاقتصادية وتداعيات الأزمات الدولية.
ويري بعض المحللين أن التقوقع الحضاري والانغلاق المحسوب قد يكون الخيار الأفضل للعديد من دول العالم، حفاظا علي هويتها ومقدراتها، وربما البديل الأمثل للإنفتاح اللامحدود، مما يفتح الباب لإعادة التقييم الموضوعي للعلاقات بين الدول في هذه المنظومة غير المتكافئة..والأيام وحدها كفيلة بالكشف عن كافة الحقائق وربما الإجابة عن كثير من التساؤلات!.