في مجتمعنا المصري، لطالما تداولنا مصطلح “عقدة الخواجة” باعتباره دلالة على تفضيل كل ما هو أجنبي أو مستورد على ما هو محلي، سواء كان ذلك في المنتجات، الأفكار، أو حتى الكفاءات البشرية. هذا المصطلح، الذي يحمل في طياته دلالات نفسية واجتماعية عميقة، ليس مجرد تعبير عامي عابر، إنما هو انعكاس لظاهرة ثقافية متجذرة تستدعي وقفة تحليلية متأنية لفهم أبعادها وتأثيراتها على مسيرة التنمية والتقدم.
فما هو أصل هذه “العقدة”؟ وما هو واقعنا الذي أفرزته؟ وهل نحن حقًا لسنا واجهة منجزة تستحق التقديم، أم أننا ضحايا لإرث اجتماعي وثقافي يقوض ثقتنا بأنفسنا وبقدراتنا؟
تعود جذور مصطلح “الخواجة” إلى فترة الحكم العثماني وما تلاها من فترات استعمارية، حيث كان يُطلق على الأجانب، وخاصة الأوروبيين، الذين كانوا يتمتعون بامتيازات اقتصادية واجتماعية وسياسية تفوق بكثير ما يتمتع به المواطن المحلي. كان “الخواجة” يمثل في الوعي الجمعي صورة للرقي، الحداثة، الجودة، وحتى السلطة. هذا التصور لم يكن وليد فراغ، إنما كان نتاجًا لواقع تاريخي فرضته قوى استعمارية متفوقة صناعيًا وعسكريًا، مما خلق شعورًا بالدونية لدى الشعوب المستعمرة تجاه المستعمر. تطورت “عقدة الخواجة” لتصبح حالة نفسية واجتماعية، حيث ارتبطت الجودة والإتقان والابتكار بالمنتج أو الفكر الأجنبي، بينما ارتبط المنتج المحلي، في كثير من الأحيان، بالتدني أو عدم الكفاءة. لم يكن الأمر مقتصرًا على السلع المادية فحسب، لكنه امتد ليشمل الأفكار، النظم الإدارية، وحتى المعايير الجمالية، مما يعكس تبعية ثقافية ونفسية عميقة.
في واقعنا المعاصر، تتجلى “عقدة الخواجة” في صور متعددة. ففي سوق العمل، قد يواجه الخريج أو المهني المصري صعوبة في الحصول على فرصة عمل مرموقة مقارنة بنظيره الأجنبي، حتى لو كانت كفاءاته متساوية أو تفوقه. وفي مجالات الصناعة والتجارة، لا يزال البعض يفضل المنتج المستورد، حتى لو كان هناك بديل محلي ذو جودة مماثلة أو أفضل وسعر أقل. هذا التفضيل لا يقتصر على المستهلكين فحسب، إنما يمتد أحيانًا إلى المؤسسات والشركات التي تفضل التعامل مع الخبرات الأجنبية أو استيراد التكنولوجيا من الخارج. السؤال الجوهري هنا هو: هل هذا الواقع يعكس حقيقة أننا “لسنا واجهة منجزة ومحققة تستحق التقديم في ساحات العمل المختلفة”؟ الإجابة ليست بسيطة. فمن ناحية، لا يمكن إنكار وجود بعض التحديات المتعلقة بالجودة، الالتزام، والابتكار في بعض القطاعات المحلية. وقد يكون هذا ناتجًا عن تقاعس فردي أو قصور في الأنظمة التدريبية والتعليمية، أو حتى غياب المنافسة الحقيقية التي تدفع نحو التميز. هذه الأفعال والتقاعسات، وإن كانت فردية في منشئها، قد تسهم في تعزيز الصورة النمطية السلبية عن المنتج أو الكفاءة المحلية. لكن من ناحية أخرى، من الظلم بمكان تعميم هذه الصورة على الجميع. فمصر تزخر بالكفاءات الشابة والمبدعة في كافة المجالات، من الهندسة والطب إلى الفنون والتكنولوجيا. وهناك العديد من المنتجات المحلية التي تضاهي، بل وتتفوق على مثيلاتها المستوردة في الجودة والمتانة. هؤلاء الأفراد والمنتجات غالبًا ما يواجهون تحديًا كبيرًا في كسر حاجز “عقدة الخواجة” وإثبات جدارتهم في سوق يميل بطبعه إلى تفضيل المستورد. إنهم يستحقون الفرصة لإثبات العكس، ليس فقط من أجلهم، لكن من أجل بناء اقتصاد وطني قوي ومستقل.
هنا يبرز السؤال الأكثر تعقيدًا: هل “عقدة الخواجة” هي مشكلة فردية من بعض الأفراد الذين يتقاعسون عن العمل والإنجاز بشكل سليم، وبالتالي عمت السيئة على الجميع ووصمنا بوصم عدم الاستحقاق؟ أم هو إرث اجتماعي وثقافي عميق الجذور، يجعلنا نثق بالمستورد فقط على الرغم من جودة المنتج المحلي؟ الواقع أن الظاهرة هي مزيج من الاثنين. فبالتأكيد، هناك أفراد أو مؤسسات قد لا تقدم الجودة المطلوبة، مما يؤثر سلبًا على السمعة العامة. ولكن هذا لا يفسر حجم الظاهرة ولا عمقها. “عقدة الخواجة” هي في جوهرها إرث ثقافي واجتماعي تراكم عبر عقود من الزمن، تشكل بفعل عوامل تاريخية واقتصادية ونفسية. لقد ترسخ في الوعي الجمعي أن “صنع في الخارج” يعني بالضرورة “جودة عالية”، وأن “الخبير الأجنبي” هو الأفضل، حتى لو لم يكن كذلك دائمًا. هذا الإرث الثقافي يتغذى على عدة عوامل، منها: التعليم، حيث قد لا يركز النظام بشكل كافٍ على تعزيز الثقة في الذات والقدرات المحلية، أو على غرس ثقافة الابتكار والتميز. الإعلام، الذي يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الوعي العام، فإذا كان التركيز على السلبيات أو على تمجيد كل ما هو أجنبي، فإن ذلك يعزز “العقدة”. السياسات الاقتصادية، التي قد لا توفر البيئة الحاضنة الكافية للصناعات المحلية، مما يجعلها أقل قدرة على المنافسة أو التطوير. وأخيرًا، الوعي المجتمعي، فغياب الوعي الكافي بأهمية دعم المنتج المحلي والكفاءات الوطنية يساهم في استمرار الظاهرة.
إن كسر هذه “العقدة” يتطلب جهدًا جماعيًا ومستمرًا. يجب أن نبدأ بتعزيز ثقافة الجودة والالتزام في كل ما نفعله، سواء أفراد أو مؤسسات. يجب أن ندعم المنتج المحلي والكفاءات الوطنية، ليس فقط بالقول، بل بالفعل، من خلال الشراء والتوظيف والاستثمار. كما يتوجب على الدولة والمؤسسات التعليمية والإعلامية أن تلعب دورًا محوريًا في تغيير هذا التصور، من خلال تسليط الضوء على قصص النجاح المحلية، وتعزيز الابتكار، وتوفير بيئة داعمة للتنمية.
فـ “عقدة الخواجة” ليست مجرد مشكلة اقتصادية أو اجتماعية، لكنها أزمة ثقة في الذات والقدرات. والتغلب عليها يعني استعادة الثقة في هويتنا وقدرتنا على الإنجاز والابتكار، وأن نكون واجهة منجزة ومحققة تستحق التقديم في ساحات العمل المختلفة، ليس لأننا “خواجات”، بل لأننا نحن، بقدراتنا وإبداعاتنا.














