بقلم ✍️ شحاته زكريا
( باحث في الشؤون الإقتصادية)
في لحظة فارقة من تاريخ الإقليم وبينما تتعثر بعض الاقتصادات في سباق البقاء ، وتعيد القوى الكبرى رسم خرائط المصالح والنفوذ تنهض مصر بهدوء وإصرار لتعيد تعريف موقعها على خريطة التجارة العالمية لا بالكلمات بل بالمشروعات العملاقة التي تحوّل الجغرافيا إلى طاقة اقتصادية متجددة. وفي قلب هذه الرؤية الطموحة تقف المنطقة الاقتصادية لقناة السويس لا بوصفها مجرد مشروع تنموي بل كنقطة ارتكاز لتحول نوعي يعيد صياغة علاقة مصر بالعالم.
لقد كان افتتاح قناة السويس الجديدة في 2015 لحظة رمزية ومادية في آنٍ واحد ؛ إذ أعادت إلى الأذهان عبقرية الموقع المصري الذي لم يكن يوما مجرد ممر مائي بل كان وما زال ممرا استراتيجيا تتقاطع عنده المصالح وتتشابك فيه الحسابات. ومن هنا انطلقت الدولة المصرية في مسار أكثر طموحا لا يكتفي بتحديث القناة بل يسعى إلى توظيف عبقرية المكان في بناء منصة صناعية ولوجستية واقتصادية ضخمة تُجسِّد ما يمكن تسميته بـ”قناة السويس الثانية”.. قناة الفرص والإنتاج والشراكات الدولية.
المخطط الاستراتيجي للمنطقة الاقتصادية يُجسِّد رؤية مختلفة للتنمية رؤية لا تكتفي بتوفير فرص عمل أو جذب استثمارات بل تنطلق من فكرة التمركز الذكي في قلب العالم 230 مليون مستهلك في الشرق الأوسط وأفريقيا وقرابة 12% من حركة التجارة العالمية تمر عبر القناة وطرق بحرية وبرية وجوية تربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.. كل ذلك يجعل من المنطقة الاقتصادية منصة ذهبية للتصنيع والتجميع وإعادة التصدير.
ما يُحسب للقيادة المصرية أنها لم تكتفِ بالرؤية بل وفّرت البنية التحتية القادرة على تحويل الطموح إلى واقع. من تطوير الموانئ البحرية على جانبي القناة (شرق وغرب بورسعيد، السخنة، الأدبية، الطور، العريش)، إلى تأسيس مناطق صناعية متكاملة ومدن لوجستية ذكية ، وشبكة طرق وسكك حديد تربط هذه المناطق ببقية المحافظات بل وبالحدود والمعابر مع السودان وليبيا وفلسطين. نحن نتحدث هنا عن استثمار في المستقبل لا في الأسمنت والخرسانة فقط بل في المكانة والدور والديناميات الإقليمية.
ولأن الرؤية متكاملة فقد سعت مصر إلى بناء شراكات استراتيجية مع قوى اقتصادية عالمية ضمن فلسفة التمركز في السوق العالمية. من الصين في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، إلى الهند وروسيا ثم دول الخليج وأوروبا ومرورا بكبريات الشركات العالمية في الصناعات الثقيلة والخفيفة والدوائية والبتروكيماوية والطاقة المتجددة. لم تعد المنطقة الاقتصادية مجرد حلم مصري بل تحوّلت إلى مساحة دولية مفتوحة للاستثمار والتكامل.
واللافت في التجربة المصرية أنها تمضي بخطى ثابتة رغم كل التحديات. من جائحة كورونا إلى الحرب الروسية الأوكرانية وما تبعها من اضطرابات في سلاسل الإمداد ومن التوترات الإقليمية إلى التباطؤ الاقتصادي العالمي.. ورغم كل ذلك، شهدنا ارتفاعا متزايدا في عدد العقود الاستثمارية الموقعة داخل المنطقة وزيادة واضحة في حجم الإنتاج الصناعي بل ونجاحات نوعية في توطين صناعات استراتيجية مثل الهيدروجين الأخضر والسيارات الكهربائية.
إن الرهان الحقيقي هنا لا ينصب فقط على جذب الاستثمار بل على إعادة تعريف دور مصر في الاقتصاد العالمي. فبدلا من أن تكون قناة السويس ممرا عابرا للتجارة ، تتحوّل اليوم إلى مركز تجميع وإعادة تصدير ومنصة صناعية متقدمة تضيف قيمة حقيقية للمنتج العالمي. هذا التحول يضع مصر في قلب معادلة جديدة تكون فيها جزءا من سلاسل القيمة العالمية وليس فقط محطة من محطات العبور.
ولا يمكن تجاهل البعد التنموي والاجتماعي لهذا المشروع. فبفضل المنطقة الاقتصادية بدأت تنمو حولها مدن جديدة وفرص عمل لآلاف الشباب وظهرت أنماط جديدة من التدريب والتعليم المرتبط باحتياجات سوق العمل وتقدّم ملموس في مستويات الخدمات والبنية التكنولوجية. نحن هنا أمام مفهوم جديد للتنمية لا يعتمد على الدعم أو العون بل على التمكين وخلق القيمة المضافة داخل الوطن.
وربما من أهم ما يميز المشروع أنه جزء من رؤية مصر 2030 التي لا تفصل الاقتصاد عن الأمن القومي ولا التنمية عن الاستقرار الإقليمي. فتعزيز وجود مصر كمركز صناعي ولوجستي عالمي لا يمنحها فقط قوة اقتصادية، بل قوة تأثير حقيقية في خرائط التحالفات والسياسات.
لقد أدركت القاهرة أن بناء المستقبل لا يتحقق بالشعارات بل بالموانئ والمصانع والمناطق الحرة والتكنولوجيا. ولهذا جاءت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس كعنوان لمرحلة جديدة تُصاغ فيها الأولويات بناء على منطق الربح المشترك والتكامل لا التصادم والانفتاح لا الانعزال والفاعلية لا الجمود.
ويبقى السؤال: هل نحن أمام محطة مؤقتة من الإنجاز؟ أم أمام بداية لتحول استراتيجي شامل؟ الإجابة تُكتب كل يوم على الأرض بحجم التوسعات التي تُنفّذ والعقود التي تُوقّع والمنتجات التي تخرج من مصانع السخنة وبورسعيد والعين متجهة إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا.
المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ليست فقط مشروعا مصريا ناجحا بل تجربة قابلة للتصدير كنموذج للتنمية الذكية القائمة على الموقع والبنية والشراكة. إنها باختصار شهادة على قدرة مصر لا أن تكتب تاريخها فقط بل أن تُعيد تشكيل خريطة المستقبل في محيطها بخطاب جديد وموقع مختلف واقتصاد يتحرك بثقة نحو العالمية.













