نَبْتَعِدُ عَنْهَا ثُمَّ نَعُودُ إِلَيْهَا، وَكُلُّنَا لَهْفَةٌ عَلَى الكَثِيرِ مِمَّا تَرَكْنَاهُ قَبْلَ سَفَرِنَا، نَنْظُرُ مِنْ حَوْلِنَا، وَكُلَّمَا تَعَمَّقْنَا فِي دُرُوبِهَا وَحَوَارِيهَا الَّتِي كَانَتْ مَلِيئَةً بِالحَنِينِ، حَتَّى الجُدْرَانُ تَحْتَضِنُكَ.
لَكِنَّ اليَوْمَ صَدَمَتْنَا تِلْكَ الجُدْرَانُ العَالِيَةُ، وَشَوَارِعُهَا غَيْرُ المُسْتَوِيَةِ، وَأَنَابِيبُ كَبِيرَةٌ تَخْرُجُ مِنْ أَعْمَاقِهَا، وَكُتَلٌ مِنَ التُّرَابِ، وَحَالَةٌ مِنْ فَوْضَى الشَّوَارِعِ. تَسَاءَلْتُ: “مَاذَا يَحْدُثُ؟” فَجَاءَتِ الإِجَابَةُ وَاحِدَةً: “أَعْمَالُ صَرْفٍ!”. وَهُنَا قَرَّرْتُ المَشْيَ مُتَرَجِّلًا بَاحِثًا عَنْ تِلْكَ الحِكَايَا الَّتِي حَمَلَتْهَا دُرُوبُهَا، ورَائِحَةُ “حِلَّةِ البَلِيلَةِ” فِي هَذَا التَّوْقِيتِ مِنَ العَامِ، حَيْثُ يَسْهَرُ الكَشَّاكَةُ – كَمَا كُنَّا نَقُول – حَتَّى الصَّبَاحِ، وإِذِا بالعَمَلُ تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ وَنَحْنُ فِي القَيْظِ، وَالَّذِي يُعَدُّ مِنْ أَفْضَلِ أَوْقَاتِ العَامِ لِلكُشْكِ الدَّلْجَاوِيِّ.
الكُشْكُ يَا فَنْدِمْ لَمْ يَعُدْ مَوْجُودًا كَمَا تَرَكْتُهُ، فَاليَوْمَ تُرِيدُ أَنْ تَشْتَرِيَ بِالكِيلُو أَمْ بِالمِكْيَالِ؟! فَالحَالُ تَغَيَّرَ وَتَبَدَّلَ.
وَهُنَا أَدْرَكْتُ أَنَّنِي أَمَامَ حَالَةٍ جَدِيدَةٍ، وَإِذَا بِالعَدِيدِ مِنَ السَّيَّارَاتِ تَسِيرُ بِجَوَارِي مُسْرِعَةً، مُحَمَّلَةً بِالكَثِيرِ مِنَ الأَدَوَاتِ المَنْزِلِيَّةِ لِعُرْسِ فُلَانٍ عَلَى فُلَانَةَ، وَتِلْكَ الأَغْرَاضُ لَهَا. أَصَابَتْنِي حَسْرَةٌ فِي نَفْسِي لِمَا يَحْدُثُ، وَقُلْتُ: “كَانَ اللهُ فِي عَوْنِ الآبَاءِ مِنْ أَجْلِ بَنَاتِهِمْ.” وَبَعِيدًا، وَجَدْتُ رَجُلًا يَجْلِسُ القُرْفُصَاءَ، وَكَأَنَّهُ مُعْتَرِضٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ حَوْلِهِ. تَقَدَّمْتُ نَحْوَهُ، فَنَظَرَ فِي وَجْهِي كَثِيرًا، وَقَالَ: “مَاذَا تُرِيدُ؟” قُلْتُ: “أَلَا تَعْرِفُنِي؟” فَقَالَ: “لَا يَا وَلَدِي، مَنْ أَنْتَ؟”
عَرَّفْتُهُ بِنَفْسِي فَعَرَفَنِي، وَقَالَ لِي: “بَقِي لَكَ سَنَوَاتٌ بَعِيدًا عَنِ القَرْيَةِ.” أَجَبْتُهُ: “نَعَمْ، عَمَّاهْ.” فَقَالَ: “أَحْسَنُ لَكَ، خَلِّيكَ مَكَانَكَ، لَا تَعُدْ مَرَّةً أُخْرَى؛ فَالحَالُ تَغَيَّرَ، وَرُبَّمَا لَا تَسْتَطِيعُ العَيْشَ كَمَا كُنْتَ.” بُنَيَّ: تَدْرِي؟ أَظَلُّ هُنَا اليَوْمَ كَامِلًا، يَمُرُّ الكَثِيرُونَ، لَا يُلْقُونَ السَّلَامَ، وَلَا يَسْأَلُونَ عَنِّي. أَبْنَاءُ جِيلِي تُوُفُّوا، وَنَحْنُ نَنْتَظِرُ. تَدْرِي مَنْ يَمُرُّونَ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ؟ كُلُّ وَاحِدٍ لَدَيْهِ هَاتِفٌ مُمْسِكٌ بِهِ فِي بَيْتِهِ وَخَارِجِهِ، وَلَا يَعْرِفُ إِلَّا “التِّيكْ” وَ”الهِيكْ” وَ”البِيكْ”! وَنَحْنُ أَصْبَحْنَا فِي عِدَادِ المَوْتَى الأَحْيَاءِ، إِذَا جَاءَ دَوْرُنَا اكْتَظَّتِ المَوَاقِعُ بِالعَزَاءِ وَكَفَى، وَحِينَ أُوَسَّدُ التُّرَابَ تَخْرُجُ الهَوَاتِفُ مِنَ الجُيُوبِ، وَكَأَنَّهَا أَغْمَادُ السُّيُوفِ، تُصَوِّرُ يَمِينًا وَيَسَارًا، تَبْحَثُ فِي وُجُوهِ النَّاسِ معبرة على تِلْكَ الحَالَةِ وتَفْعَلُ “السْنَابْ” وَالتَّوَاصُلَ، وَيَعُودُ النَّاسُ فَرِحِينَ بِمَا تَمَّ تَحْقِيقُهُ مِنْ “لايكَاتْ”! بِاللهِ عَلَيْكَ، كَمْ “لايكْ” أَسَاوِي فِي نَظَرِكَ؟!
بُنَيَّ: تَغَيَّرَ الكَثِيرُ فِي قَرْيَتِنَا الجَمِيلَةِ، وَأَصْبَحَتْ رُؤُوسُ الأَمْوَالِ هِيَ مَنْ تَتَحَدَّثُ. بُنَيَّ: المُجْتَمَعُ الرَّأْسْمَالِيُّ سَيِّئٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسِبُ أَيَّ حِسَابٍ لِأَيِّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا بِرَأْسِ المَالِ، وَتِلْكَ مُصِيبَةٌ كُبْرَى.
اُنْظُرْ حَوْلَكَ بُنَيَّ، مَاذَا تُشَاهِدُ؟ قُلْتُ: “أُشَاهِدُ الكَثِيرَ يَا عَمَّاهْ، لَكِنْ لَيْسَ كَالمَاضِي، كُلُّ شَيْءٍ تَغَيَّرَ وَأَصْبَحَ شَبِيهَ المَسْخِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ حَيَاةً، بَلْ هِيَ تِلْكَ الدُّمَى المُعَلَّقَةُ بِالخُيُوطِ، تَتَحَكَّمُ بِهَا القُوَى العُظْمَى وَتُدِيرُهَا.”
لَقَدْ رَجَعَتْ عَلَيَّ المَوَاجِعُ، لَكِنْ لَا بَأْسَ، حَتَّى أُدْرِكَ مَا أَنَا قَادِمٌ عَلَيْهِ. بَكَيْتُ كَثِيرًا بِجِوَارِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي وَقَالَ: “لَا تَبْكِ الرِّجَالُ، وَإِذَا بَكَتِ انهَارَتِ الدُّنْيَا. عُدْ يَا بُنَيَّ وَلَا تُفَكِّرْ كَثِيرًا، وَإِذَا أَدْرَكَكَ الحَنِينُ فَخُذْ مِنْ كُلِّ حَوْضٍ مِنْ أَحْوَاضِهَا الزِّرَاعِيَّةِ حُقْنَةَ تُرَابٍ، وَعِشْ عَلَى رَائِحَتِهَا، وَقُلْ بِمِلْءِ فِيكَ: (أَنَا مِنْ دَلْجَةَ وَالبَدْرَمَانِ وَبَحْرِ يُوسُفَ مِنْ حَوْلِهِمَا)، تِلْكَ المَقُولَةُ الخَالِدَةُ لِتَعْرِفَ مَنْ أَنْتَ!”














