بقلم ✍️ أسماء نوير
(باحثة دكتوراه ومترجمة مصرية في الذكاء الاصطناعي)
»» الطريق لتحقيق توازن بين مكافحة الأخبار الزائفة وضمان استدامة المحتوى
لم تعد التحولات في الإعلام المصري حبيسة أساليب البث والتقنيات، بل امتدت لتلامس جوهر العملية الإعلامية نفسها، فسقط الحاجز التقليدي بين المرسل والمستقبل، لتحل محله علاقة تشاركية تفاعلية غير مسبوقة.
ومع ظهور الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence – AI) كقوة محركة لعدد كبير من الصناعات الحديثة، وجد الإعلام نفسه أمام تحدٍ غير مسبوق: كيف يمكن توظيف هذه التكنولوجيا لتطوير الرسالة الإعلامية، وضبط تدفق المعلومات، ومكافحة الأخبار الزائفة (Fake News)، وفي الوقت ذاته الحفاظ على مهنية العمل الإعلامي وقيمه الأساسية؟ هذا السؤال يطرح نفسه بقوة في الحالة المصرية، حيث يحتل الإعلام مكانة محورية في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، وحيث تتداخل اعتبارات الأمن القومي مع حرية التعبير، ضمن بيئة اجتماعية وسياسية معقدة.
الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تقنية مساعدة، بل أصبح فاعلا مؤثرا في صناعة الإعلام ذاتها، فمن خلال الخوارزميات (Algorithms) وتقنيات التعلم الآلي (Machine Learning) بات من الممكن تحليل كميات هائلة من البيانات، ورصد أنماط انتشار الأخبار الكاذبة، وتحديد مصادرها بسرعة فائقة.
وفي مصر، حيث تشكل الأخبار المضللة تهديدا للاستقرار الاجتماعي والسياسي، برزت الحاجة إلى أن يكون للذكاء الاصطناعي دور أساسي في عملية “التحقق الآلي” (Automated Fact-Checking). فالأخبار الكاذبة لم تعد مجرد شائعات بسيطة تنتقل شفهيا، بل تحولت إلى صناعة رقمية كاملة قادرة على التأثير في الرأي العام وصياغة المواقف السياسية والاقتصادية.
لكن هذه الإمكانات التكنولوجية تثير في الوقت ذاته إشكالات أخلاقية ومهنية، فإذا كان الذكاء الاصطناعي قادرا على تحليل المحتوى وإعادة إنتاجه بشكل شبه مستقل، فإن السؤال يظل قائما حول من يتحكم في الخوارزميات ذاتها؟ هل هي أداة في يد الدولة لتعزيز الرقابة والسيطرة على الفضاء الإعلامي (Media Space)، أم وسيلة لتحرير الإعلام من هيمنة المصادر التقليدية وفتح المجال أمام حرية أكبر للتعبير؟. هذه المفارقة تضع الإعلام المصري في قلب جدلية معقدة، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع السياسة، والابتكار مع الضبط، والمهنية مع السلطة.
في جانب مكافحة الأخبار الزائفة، يشير الواقع المصري إلى أن التحدي ليس تقنيا فحسب، بل ثقافي أيضًا ،فالمجتمع المصري، بحكم تركيبته المتنوعة واعتماده المتزايد على وسائل التواصل الاجتماعي (Social Media)، بات أكثر عرضة لتداول الأخبار غير الموثوقة. وهنا يظهر الذكاء الاصطناعي كأداة مزدوجة: فمن ناحية، يمكنه أن يقدم آليات رصد دقيقة وسريعة للمعلومات المشبوهة، ومن ناحية أخرى، يمكنه أن يفتح الباب أمام الاستخدام المفرط في “تصفية” المحتوى بما قد يحد من التعددية الإعلامية (Media Pluralism).
إن السؤال النقدي هنا هو: كيف يمكن بناء منظومة متوازنة في مصر توظف الذكاء الاصطناعي لتعزيز مصداقية الإعلام، دون أن تنزلق إلى نموذج من الرقابة الرقمية الشاملة (Digital Surveillance) التي تفقد المواطن ثقته بالوسائط الإعلامية؟ وللإجابة عن هذا السؤال، لا بد من العودة إلى طبيعة العلاقة التاريخية بين الدولة المصرية والإعلام، فمنذ عقود، ظل الإعلام أداة رئيسية في إدارة المجال العام وتشكيل الوعي الجمعي، سواء عبر الصحافة المطبوعة أو القنوات الفضائية. ومع دخول الإعلام الرقمي، تزايدت صعوبة السيطرة على التدفق الحر للمعلومات. وهنا برز الذكاء الاصطناعي كأمل لإنشاء نوع من “التوازن الخوارزمي” (Algorithmic Balance) الذي يضبط الفوضى الإعلامية دون إلغاء التعددية.
إلا أن هذا الطموح يواجه عدة عقبات أولها، أن تقنيات الذكاء الاصطناعي نفسها ليست محايدة.، فهي تحمل تحيزات كامنة (Algorithmic Biases) قد تؤدي إلى تعزيز أنماط من التضليل بدلًا من مواجهتها، خاصًة إذا لم تُؤسس على بيانات دقيقة وموضوعية. في السياق المصري، حيث المؤسسات الإعلامية تعاني أحيانًا من نقص في الشفافية، فإن الاعتماد على بيانات غير مكتملة قد يجعل النظام الآلي للتحقق أقل فاعلية أو حتى مضللاً. ثانيًا، أن الاستخدام المفرط لهذه التقنيات في تصنيف المحتوى قد يؤدي إلى خنق المبادرات الإعلامية المستقلة التي تعتمد على النقد والتحليل.
من جانب آخر، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة لصناعة المحتوى (Content Creation) في الإعلام المصري. فقد أصبح بالإمكان عبر تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (Natural Language Processing – NLP) توليد نصوص صحفية متكاملة في غضون ثوانٍ، أو عبر تقنيات التزييف العميق (Deepfake) إنتاج مقاطع فيديو شديدة الإقناع. هذا التطور يطرح إشكالية مزدوجة: فمن ناحية، يتيح للإعلاميين أدوات جديدة لتسريع العمل وتوسيع نطاق التغطية، ومن ناحية أخرى، يفتح الباب واسعًا أمام مخاطر الانتحال الإعلامي والتلاعب بالحقائق. ففي بيئة مثل مصر، حيث تلعب الصورة والكلمة دورًا أساسيًا في تشكيل المواقف السياسية والاجتماعية، قد يتحول المحتوى الآلي إلى أداة للتأثير الجماهيري يصعب ضبطها.
ولعل التحدي الأكبر يتمثل في أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل في فراغ، بل ضمن منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية محددة. فإذا كان الإعلام في الديمقراطيات الغربية يجد مساحة نسبية من الحرية التي تسمح باستخدام الذكاء الاصطناعي لتوسيع التعددية، فإن الإعلام المصري يعمل في بيئة يهيمن عليها خطاب الدولة، حيث يُنظر إلى الأمن القومي باعتباره أولوية مطلقة. وبالتالي، فإن إدماج الذكاء الاصطناعي في الإعلام قد يأخذ مسارًا مختلفًا، يتمثل في تعزيز آليات الضبط والمراقبة بدلاً من فتح المجال العام.
مع ذلك، فإن الإمكانات التي يتيحها الذكاء الاصطناعي للإعلام المصري لا يمكن الاستهانة بها. فمن خلال تقنيات تحليل البيانات الضخمة (Big Data Analytics) يمكن فهم أنماط التفاعل الجماهيري بشكل أعمق، ورصد القضايا الأكثر إثارة للنقاش، وتوجيه السياسات الإعلامية بشكل أكثر دقة. كما أن تطوير منصات إعلامية تعتمد على “المحتوى المخصص” (Personalized Content) قد يفتح المجال أمام تحسين تجربة المتلقي وزيادة تفاعله مع الوسائط الإعلامية الوطنية. لكن هذا كله يظل مشروطًا بقدرة المؤسسات الإعلامية على استيعاب التكنولوجيا بشكل نقدي، وليس بوصفها مجرد أداة تقنية جاهزة.
يظل البعد الأخلاقي حاضرًا بقوة في هذا السياق. فإذا كان الإعلام بطبيعته يتعامل مع الحقيقة بوصفها جوهر رسالته، فإن إدخال الذكاء الاصطناعي يطرح سؤالًا وجوديًا: من يحدد ما هي الحقيقة؟ هل هي الخوارزميات التي تُصمم وفق معايير تقنية، أم المؤسسات الإعلامية التي تعكس مواقف سياسية محددة، أم الجمهور نفسه الذي يملك حق الاختيار؟ هذه الجدلية تصبح أكثر تعقيدًا في مصر، حيث يتداخل الإعلام مع الأمن والسياسة بشكل يصعب فصله.
في المقابل، فإن فرصًا جديدة تظهر أيضًا. فإدماج الذكاء الاصطناعي في الإعلام التعليمي والثقافي يمكن أن يعزز دور الإعلام المصري كأداة تنويرية، قادرة على نشر المعرفة ومكافحة الأمية الإعلامية (Media Literacy). فإذا ما استُخدمت هذه الأدوات لتثقيف الجمهور حول كيفية التحقق من الأخبار، وفهم طبيعة المحتوى الرقمي، فإنها قد تتحول إلى قوة مضادة للأخبار الزائفة بدلًا من أن تكون مجرد وسيلة لرصدها.
وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ملحة إلى وضع إطار قانوني وأخلاقي ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام المصري. هذا الإطار يجب أن يوازن بين مقتضيات الأمن القومي وحقوق الجمهور في الوصول إلى المعلومات، وبين متطلبات مكافحة الأخبار الزائفة وضمان حرية التعبير. كما يجب أن يشمل آليات للمساءلة والشفافية (Accountability & Transparency) تتيح للجمهور معرفة كيف تعمل الخوارزميات، وما المعايير التي تعتمدها في تصنيف المحتوى.
ختامًا، يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يضع الإعلام المصري أمام منعطف حاسم. فهو من ناحية يمثل فرصة لتجديد الأدوات وتعزيز المصداقية ومكافحة التضليل، ومن ناحية أخرى يشكل خطرًا إذا استُخدم في اتجاه تعزيز الرقابة وتقييد التعددية. التحدي الحقيقي لا يكمن في التكنولوجيا ذاتها، بل في الكيفية التي تُدمج بها في البنية الإعلامية والسياسية المصرية. إن المطلوب ليس فقط استيراد أدوات جاهزة من الخارج، بل تطوير رؤية وطنية لإعلام ذكي (Smart Media) يقوم على توازن دقيق بين الابتكار والحرية، بين الضبط والانفتاح، وبين الأمن والحقوق. وحده هذا التوازن يمكن أن يجعل من الذكاء الاصطناعي قوة دفع للإعلام المصري، لا مجرد أداة جديدة في معادلة السيطرة.














