بقلم ✍️ شحاته زكريا
(باحث في الشؤون السياسية والإقتصادية)
في عالم يموج بالصراعات المسلحة والتحالفات الخشنة تظل هناك قوة من نوع مختلف ، لا تُقاس بعدد الدبابات أو الصواريخ بل بقدرتها على اختراق العقول وتشكيل الوجدان وبناء الصورة الذهنية للدول.
تلك هي القوة الناعمة التي طالما امتلكت مصر مفاتيحها من حضارتها الضاربة في عمق الزمن إلى فنونها وآدابها وإعلامها ودبلوماسيتها لتصبح واحدة من أهم أدوات التأثير في المنطقة والعالم.
القوة الناعمة ليست شعارا ولا مجرد زينة ثقافية بل هي فعل استراتيجي يُعيد تعريف مكانة الدولة في محيطها، فحين تتحدث مصر بلا سلاح يسمعها العالم. وحين تعرض فنها تلتف حولها الشعوب..
وحين تطرح مبادرة سياسية تجد لها صدى يتجاوز حدودها الجغرافية.
هذه المعادلة التي تبدو بسيطة هي في الحقيقة معجزة متكررة رسّخت لمصر حضورا استثنائيا لم يتوفر لغيرها من دول المنطقة.
منذ عقود أدركت القاهرة أن مكانتها لا تُبنى فقط بالقوة العسكرية رغم ضرورتها وإنما أيضا بقوة الفكرة والرمز ،فأفلامها صنعت ذاكرة العرب وموسيقاها صارت جزءا من حياتهم اليومية وجامعاتها استقبلت أجيالا من الطلاب الأفارقة والعرب الذين عادوا إلى بلدانهم وهم يحملون شيئا من مصر في عقولهم وقلوبهم.
بل إن الدبلوماسية المصرية بخبرتها وتوازنها تحولت إلى مدرسة قائمة بذاتها تُقدّم نموذجا فريدا في كيفية إدارة الملفات الصعبة دون ضجيج.
اليوم ونحن أمام عالم جديد يتشكل تصبح القوة الناعمة لمصر أكثر أهمية من أي وقت مضى. فالعالم لم يعد يقتنع فقط بمن يملك السلاح بل أيضا بمن يستطيع أن يقدّم رواية مقنعة ورؤية قادرة على جمع المختلفين وصوتا يرتفع بالسلام وسط جلبة الحروب. هنا بالضبط تتجلى عبقرية الدور المصري: أن يحافظ على صلابته العسكرية والأمنية لكنه في الوقت نفسه يوظف أدواته الثقافية والإعلامية والتعليمية ليبني شبكة تأثير واسعة المدى.
الدبلوماسية المصرية مثلا لا تتحرك فقط في مسار التفاوض المباشر بل في صناعة المناخ الذي يجعل صوت العقل مسموعا ،حين تتحدث القاهرة عن حل الدولتين في فلسطين فإنها لا تكرّر خطابا دبلوماسيا تقليديا ، بل تقدم رؤية مدعومة بتاريخ طويل من الوساطة والوسيط النزيه. وحين تدعو إلى حل أزمات السودان وليبيا واليمن بالحوار فإنها تنطلق من إدراك عميق بأن الاستقرار الإقليمي لا يتحقق بالحلول العسكرية وحدها.
لكن القوة الناعمة لمصر لم تقتصر يوما على السياسة، ففي لحظات الأزمات كانت الأغنية والدراما والكتاب المصريون يُشكلون الجبهة الثانية في معركة الوعي.
يكفي أن نذكر كيف كان صوت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ يعبر الحدود ليصنع وجدانا عربيا مشتركا أو كيف تحولت روايات نجيب محفوظ وأفلام يوسف شاهين إلى أدوات لفهم المجتمع المصري والعربي. هذه المساحة الإبداعية هي جزء من القوة التي لا تُشترى بالمال ولا تُفرض بالقوة.
ومع ثورة المعلومات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي تزداد أهمية استعادة هذا الدور الناعم وتطويره. فالمعارك اليوم لا تُخاض فقط في ميادين القتال بل أيضا في فضاء الوعي الجمعي. هنا تصبح صناعة المحتوى وإبراز الهوية الثقافية ومواجهة حملات التضليل والتشويه من صميم الأمن القومي. ومصر بما تمتلكه من مخزون تاريخي وثقافي قادرة على أن تكون صاحبة الصوت الأعلى في معركة الحقيقة.
الأفارقة الذين درسوا في القاهرة والعرب الذين تربوا على شاشاتها وكتبها والأجانب الذين افتتنوا بآثارها جميعهم سفراء لقوتها الناعمة. هذه الشبكة البشرية التي تراكمت عبر عقود هي رصيد استراتيجي يتجاوز أي استثمار مادي. لذلك فإن الحفاظ على هذه المكانة يتطلب وعيا سياسيا وثقافيا بأن القوة الناعمة ليست ترفا بل ضرورة وجودية في عالم لا يرحم الضعفاء.
قد يقول قائل: وما جدوى القوة الناعمة في مواجهة عالم تُسيطر عليه لغة المصالح والقوة الصلبة؟ والجواب أن القوة الناعمة لا تلغي القوة الصلبة بل تكملها وتمنحها الشرعية. فالدولة التي لا تُلهم غيرها ولا تبني جسوراً مع الشعوب تبقى أسيرة صورتها العسكرية وحدها. أما مصر فقد عرفت كيف تجمع بين الاثنين: صلابة تحميها ونعومة تجعلها قريبة من القلوب.
إن التحدي الأكبر اليوم هو أن نُحوّل هذا الإرث إلى مشروع مستقبلي واع يستثمر في الإعلام والتعليم والثقافة والدبلوماسية العامة. فالقوة الناعمة لا تُصان بالتاريخ وحده،
بل بالقدرة على مواكبة اللحظة وصياغة خطاب جديد يناسب العصر الرقمي. وإذا كانت مصر قد ألهمت أجيالا من قبل فإن عليها أن تستعيد اليوم زمام المبادرة لتلهم أجيالا جديدة ليس في المنطقة فقط بل على مستوى العالم.
القوة الناعمة المصرية إذن ليست مجرد قصة ماضٍ بل هي مشروع حاضر ومستقبل. هي المعجزة التي تجعل مصر مهما تغيّرت الظروف وتبدلت التحالفات رقما لا يمكن تجاوزه. وهي السلاح الذي لا يصدى ولا يصدأ لأنه سلاح الوعي والإبداع والوجدان. وفي زمن التصدعات الكبرى تظل مصر حين تتحدث بلا سلاح قادرة على أن تصنع معجزتها مرة أخرى.














