بقلم : د.خالد فتحى سالم
( أستاذ بيوتكنولوجيا المحاصيل ـ معهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية جامعة مدينة السادات مصر )
»» كيف تقود الدول الكبرى ثورة “الحليب”.. وهل تلحق مصر بالركب؟
يُعتبر الحليب أحد أهم المنتجات الغذائية في العالم، ويشكّل ركيزة أساسية للأمن الغذائي والتغذية البشرية. ومع ازدياد الطلب العالمي على منتجات الألبان، تشتد الحاجة إلى تطوير أساليب الإنتاج ورفع الكفاءة، لا سيما في الدول ذات التعداد السكاني الكبير مثل مصر.
وعند النظر إلى خارطة العالم من حيث إنتاج الحليب، نجد أن دولًا مثل الهند، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي تتصدر القائمة.
وتكمن أسباب نجاح هذه الدول في تبنّيها لنظم زراعية حديثة، تعتمد على الإدارة الذكية للثروة الحيوانية، وتحسين السلالات، والتكنولوجيا الدقيقة في التغذية والإنتاج.
الهند، رغم أن إنتاجية الفرد من الأبقار فيها ليست الأعلى عالميًا، إلا أن امتلاكها لأعداد ضخمة من الأبقار والجاموس يجعلها في الصدارة من حيث الإنتاج الكلي. أما الولايات المتحدة، فهي نموذج للتفوق في إنتاجية الفرد الواحد من الأبقار، بفضل الاعتماد على سلالات عالمية شهيرة، مثل الهولشتاين (Holstein)، والتي تُعد السلالة الأعلى إنتاجًا للحليب عالميًا.
هذه السلالة تمتاز بقدرتها على إنتاج كميات كبيرة من الحليب يوميًا، لكنها في المقابل تتطلب رعاية دقيقة، وتغذية عالية الجودة، وظروفًا بيئية مناسبة. وفي المقابل، هناك سلالات أخرى مثل جيرسي (Jersey) وبراون سويس (Brown Swiss)، تجمع بين إنتاج الحليب الجيد ومحتواه المرتفع من الدهون، والقدرة على التكيّف مع الظروف البيئية المختلفة.
أمام هذه الحقائق، ظهرت الحاجة إلى إدخال تحسينات وراثية على الأبقار المحلية أو المتوفرة في بلدان مثل مصر. ويتم ذلك من خلال برامج التهجين أو التلقيح الاصطناعي، حيث تُستخدم جينات أو سموم من سلالات عالية الإنتاج، ويتم إدخالها إلى سلالات محلية أكثر قدرة على التكيف مع البيئة. الهدف من ذلك هو الوصول إلى سلالة هجينة تجمع بين الإنتاج المرتفع والتحمل البيئي والصحي الجيد.
لكن لماذا تلجأ الدول إلى إدخال الجينات؟ ببساطة، لأن كل بقرة ذات إنتاج مرتفع، تقلل الحاجة إلى زيادة أعداد الأبقار، وتقلل من استهلاك العلف والمياه والطاقة مقارنة بكمية اللبن المنتجة. كما أن هذه الاستراتيجية تخفف من الانبعاثات البيئية، وتساهم في تحسين جودة المنتجات، مما يجعلها أكثر تنافسية في الأسواق.
في مصر، تمتلك الدولة قاعدة جيدة من الثروة الحيوانية، لكن لا تزال تواجه تحديات كبيرة، منها انخفاض الإنتاجية الفردية، وارتفاع تكلفة العلف، وضعف البنية التحتية في كثير من المزارع. ومع ذلك، فإن الفرصة لا تزال قائمة، بل وواعدة، إذا تم تبنّي برامج تحسين وراثي واضحة ومدروسة على المستوى القومي.
إن إدخال السلالات المحسّنة عبر التلقيح الاصطناعي، وتوفير الأعلاف الجيدة، والتدريب على الإدارة الحديثة، وتحديث المزارع، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في إنتاج الحليب بمصر. هذا إلى جانب ضرورة دعم صغار المربين، وتحفيزهم على استخدام التكنولوجيا وتوفير خدمات بيطرية منتظمة.
ختاما، لا شك أن التحسين الوراثي ليس مجرد عملية علمية معقدة، بل هو بوابة إلى مستقبل زراعي أكثر استدامة وربحية. ما حققته الدول الكبرى لم يكن صدفة، بل نتاج رؤية واضحة وتخطيط طويل الأمد. وإذا أرادت مصر أن ترفع من كفاءتها الإنتاجية، وتقلل من استيراد منتجات الألبان، فليس أمامها سوى الاستثمار في “العنصر الوراثي”… مع تغذية ذكية، وإدارة مهنية، وإرادة قوية للتغيير.














