بقلم : محمد الوكيل (باحث دكتوراه ـ جامعة طنطا)
يولد الأدب من لحظة صمتٍ طويلة، من تلك الفجوة التي تفصل بين ما نشعر به وما نستطيع قوله.
إنه محاولة الإنسان الدائمة لأن يمنح المعنى صوتًا، ولأن يحوّل الألم إلى شكلٍ جمالي يمكن احتماله.
فما يكتبه الأديب ليس مجرد بوحٍ، بل هو مقاومةٌ للعدم، وانتصارٌ صغير على الفناء الذي يتربّص بالروح كلّما غابت الكلمات.
اللغة هنا ليست أداة للتوصيل، بل وسيط نجاةٍ؛
من خلالها ينقذ الإنسان ذاته من السقوط في الصمت، لأن الصمت وإن بدا راقيًا قد يتحوّل إلى موتٍ بطيءٍ للوجدان.
وفي المقابل، لا يمكن للثرثرة أن تكون خلاصًا؛ فالكلام الذي لا ينبع من وجعٍ صادقٍ يصبح هو الآخر فراغًا.
وهكذا يقف الأدب دائمًا عند الحدود الدقيقة بين الصمت والكلام، بين الضرورة والجمال، بين التعبير والتأمل.
الأدب كفعل مقاومة
منذ فجر التاريخ، كان الأدب الوجه الآخر للحياة.
كتب الإنسان القصيدة ليُعلن أنه ما زال موجودًا رغم القهر والموت والنسيان.
وفي كلّ نصٍّ حقيقي، ثمّة حركة خفية للمقاومة مقاومة الزمن، والظلم، والعجز، وحتى العبث.
ولعلّ هذا ما جعل نيتشه يقول إنّ “الفنّ هو الوعد الذي يبرّر الحياة”.
فكل نصٍّ أدبي هو وعدٌ صغير بأنّ للإنسان قدرةً على إعادة تشكيل واقعه من جديد بالكلمة.
إنّ النصوص الكبرى في تاريخ الأدب لم تولد من الرفاهية، بل من المعاناة والقلق.
كتب المتنبي شعره وهو يحمل العالم على كتفيه، يواجه الواقع بالكبرياء، ويخوض صراعه مع ذاته قبل الناس.
وكتب نجيب محفوظ رواياته ليجعل من الأزقّة والأحياء الشعبية مجازًا للوجود الإنساني كلّه.
وفي مذكّرات غسان كنفاني، نجد الأدب وقد صار سلاحًا ناعمًا ضدّ القهر، يحفظ الذاكرة من التلاشي ويحوّل الحلم إلى مادةٍ للوعي الجمعي.
اللغة كبيتٍ للوجود
قال مارتن هايدغر إنّ “اللغة بيت الوجود”.
وهذه المقولة تختصر سرّ الأدب كلّه: فحين تضيع اللغة، يضيع الإنسان.
وحين تنطفئ الكلمة، يتراجع الوعي إلى ما قبل الحضارة.
الكاتب الأصيل هو من يعيد بناء هذا البيت بالكلمات، لبنةً بعد أخرى، كي يجد القارئ مكانًا يقيم فيه من المعنى.
إنّ اللغة الأدبية تختلف عن اللغة اليومية، فهي ليست وسيلةً وظيفية، بل نظامٌ جماليٌّ وفكريّ يُعيد صياغة العالم.
الكلمة في النص ليست انعكاسًا للواقع، بل خلقٌ جديد له، تُعيد تعريف الأشياء وتضفي عليها بعدًا رمزيًّا وجماليًّا.
بهذا المعنى يصبح الأدب مساحةً لإعادة اكتشاف الذات والآخر، والبحث عن الجوهر الإنساني وسط صخب العالم.
التوازن بين الصمت والكلام
الصمت في الأدب ليس غيابًا، بل حضورًا آخر.
فالأديب الذي يعرف متى يصمت هو الذي يدرك أن بعض الأحاسيس لا تحتمل اللغة، وأنّ بعض الجمال يضيع حين يُقال.
لكن في الوقت نفسه، الكتابة هي فعل حضورٍ مضادٍّ للعدم، لأن الكلمة تُعيد الحياة لما كان مهدّدًا بالغياب.
الكاتب الحقيقي هو من يكتب حين يصبح الصمت خيانة، ويصمت حين يصبح الكلام استهلاكًا للمعنى.
بين هذين الحدّين يتكوّن الأدب الأصيل، القادر على أن يوازن بين البوح والحكمة، بين التجربة والتأمل.
الأدب وعزاء الإنسان
الأدب لا يَعِد بالخلاص، لكنه يمنحنا عزاءً نبيلًا.
ففي عالمٍ تزداد فيه القسوة، يصبح الأدب ملاذًا روحيًا نلجأ إليه حين تعجز الوقائع عن منطقها.
إنه مساحةٌ للتخفّف، ومختبرٌ للوعي، ومنبرٌ يقول فيه الإنسان: “ما زلت أرى الجمال رغم الخراب، وأحلم رغم الخسارة، وأكتب رغم الصمت”.
ولذلك سيظلّ الأدب حيًّا ما دام الإنسان يحاول أن يفهم نفسه، وما دامت اللغة قادرةً على أن تمنح الوجدان شكلًا من أشكال الخلاص المؤقّت.
فكل نصٍّ جميلٍ يفتح نافذةً في جدار العدم، وكل كلمةٍ صادقةٍ هي محاولةُ إنقاذٍ صغيرة للروح.














