بقلم : ابتهال عبدالوهاب ( كاتبة وباحثة في الفلسفة ـ رئيس تنفيذي لمؤسسة إبداع للترجمة والبحوث)
»»
في كل مرة نحاول أن نكتب عن مصر، نجد أننا لا نكتب عنها، بل هي من تكتبنا
فهي ليست بلدا من تراب وماء بالنسبة لنا، بل هي الفكرة التي لا تموت مهما مرت عليها الأعاصير ومهما تبدل الزمن.
تسقط ثم تنهض، تتعب ثم تبدع، تئن من أوجاع الواقع لكنها لا تفقد يقينها بأن النور لا يختفي
كأنها كائن أسطوري يتغذى من الألم ليولد من جديد.
منذ فجر التاريخ، كان المصري القديم فيلسوفا بالفطرة.
لم يكتب نظرياته في الكتب، بل نقشها على جدران المعابد، ورسمها على جدران المقابر كأنه يخاطب الأبد بعين مفتوحة على الغيب.
لم يكن الموت لديه نهاية، بل بابا آخر للحياة، ولم تكن الحياة عبورا عابرا، بل امتحانا للروح في رحلتها نحو النور.
فيها بدأ الإنسان يسأل ويدهش ويصوغ من دهشته فلسفة البقاء.
على ضفاف النيل ولد السؤال الأول عن معنى الوجود،
وفي حجارة الأهرامات خط الجواب الأبدي.
كانت الفلسفة عند المصري القديم ليست علما يدرس، بل طريقة في العيش والتفكير والاحترام العميق للكون والنظام الإلهي.
نظر إلى النيل فوجد فيه سر التجدد،
ونظر إلى الشمس فرآها رمزا للدورة الأبدية بين الغياب والعودة.
ومن هذه الرؤية البسيطة والعميقة معا، ولد أقدم مفهوم فلسفي عن الزمن والخلود والعدالة الكونية.
ليست مصر وطنا على خارطة، بل حضورا يتجاوز الجغرافيا والتاريخ.
فهي الذاكرة التي صاغت الوجود الإنساني منذ فجر الوعي،
والحضارة التي علمت الإنسان كيف يصعد من الطين إلى النور.
على ترابها قامت الحضارة، ومن ضفافها خرج أول نداء للعلم والفن والحكمة.
فيها ابتدأ السؤال الفلسفي الأول حين نظر المصري القديم إلى الأفق وسأل: من أين جئت؟ وإلى أين أمضي؟ وما سر هذا النيل الذي لا يكف عن الجريان؟
كانت الأهرامات أول تأمل في معنى الخلود،
وكانت المعابد تجسيدا لفكرة العدالة الكونية،
وكان الحجر نفسه يفكر، ينطق بصمت عميق لا يفهمه إلا من أدرك أن الفلسفة ليست كلمات بل آثار تنبض بالروح.
واليوم، ومع افتتاح المتحف المصري الكبير،
تستيقظ الحضارة من نومها العميق لتخاطب العالم من جديد.
حدث ضخم وفخم، ليس مجرد عرض للآثار،
بل احتفال بالإنسان المصري الذي صنع المجد ثم تركه شاهدا على عبقريته في مواجهة الفناء.
ذلك المتحف ليس حجرا إلى جوار حجر، بل حوار بين الماضي والحاضر،
بين الفلسفة التي تسأل، والتاريخ الذي يجيب.
وحين تفتح مصر أبواب المتحف المصري الكبير،
نشهد لحظة التقاء الفلسفة بالحضارة، والعقل بالجمال.
فكل تمثال هناك ليس حجرا صامتا، بل فكرا متجسدا،
وكل نقش ليس ذكرى من الماضي، بل سطرا من كتاب الوعي الإنساني.
حين تفتح مصر أبواب المتحف المصري الكبير، فهي لا تقدم للعالم آثارا عتيقة، بل تستعيد ذاكرتها الكونية.
إنه ليس مجرد متحف، بل معبد للفكر الإنساني،
وملحمة جديدة تضاف إلى السجل الطويل الذي كتبته مصر على جدران الوجود.
المتحف المصري الكبير هو عقل مصر وقد استيقظ في هيئة معمارية باهرة،
يمزج بين الصمت والتجلي، بين الفن والفكر،
وكأنه يذكرنا أن الفلسفة ليست تأملا مجردا، بل قدرة على تحويل الحلم إلى وجود، والفناء إلى فكرة باقية.
إنه ليس مجرد احتفاء بالماضي، بل تجسيد لعبقرية فلسفية تقول إن الحضارة لا تموت،
وإن الفكر الذي ينقش في الصخر يظل أقوى من العواصف وأطول عمرا من الملوك.
مصر هي الدرس الذي علم البشرية أن الفكر يمكن أن يشيد،وأن الحضارة ليست زمنا مضى، بل شعلة لا تنطفئ أبدا.
في مصر لم تكتب الفلسفة بالحروف، بل نحِتت في الصخر، ولم تكن الآثار زينة الماضي، بل لغة العقل الإنساني الأولى.
وحين ننظر إلى المتحف المصري الكبير اليوم،
لا نرى حجارة ساكنة، بل عقولا أبدعت وفكرت وواجهت الفناء بالإبداع.
فالفيلسوف يرى في التمثال فكرا،وفي النقش معنى،
وفي المومياء حوارا بين الحياة والموت.
كل قطعة في المتحف المصري الكبير هي فكرة تأملت ذاتها ثم تجسدت،
هي درس فلسفي في معنى البقاء بعد الزوال،
وفي أن الخلود ليس حلما بل فعلا مصريا قديما.
نفتخر بمصر رغم كل المعاناة، لأنها لم تعرف يوما الاستسلام، بل علمتنا أن ننهض من الرماد،
أن نحيا رغم الوجع، ونصنع الجمال من قلب المعاناة.
مصر لا تنكسر لأنها تؤمن بأن الإنسان خلق ليبدع،
وأن الحضارة ليست زمنا مضى، بل وعيا يتجدد،
وأن الفلسفة والآثار وجهان لجوهر واحد: البحث عن المعنى ومقاومة الفناء بالخلود.
وفي كل مرة نظن أنها أوشكت على الانكسار،
تنهض من تحت الغبار، تبتسم للنيل،
وتقول للعالم من جديد:
قد أتعبني الزمان، لكني لا أزال هنا، أنحت وجودي كما فعلت منذ آلاف السنين.
المتحف المصري الكبير هو رسالة مصر للعالم:
أن الإنسان لا يقاس بعمره، بل بما يتركه من أثر،
ولا يخلد بالذهب، بل بالفكر،ولا يذكر لأنه عاش، بل لأنه أبدع.
إن مصر اليوم، رغم كل ما تواجهه من أزمات ومعاناة،
تظل درسا فلسفيا حيا في الصمود، تعلمنا أن المجد لا يولد في لحظة رخاء، بل في لحظة وجع تفيض بالحكمة.
فكما واجهت الموت في حضارتها الأولى فحولته إلى خلود،هي اليوم تواجه المحن وتحولها إلى إصرار جديد على الحياة.
مصر ليست مجرد وطن، بل وعد أبدي بأن الفكر أقوى من الموت، وأن الجمال هو أصدق وجوه المقاومة.
ومن قلب كل محنة، تخرج مصر كما كانت دوما:
فيلسوفة بين الأمم، تعلم العالم أن الحضارة لا تبنى بالحجارة وحدها،بل بالروح التي لا تنطفئ، وبالإيمان العميق بأن النور سيعود.. دائما من هنا.
ومن هناك، من أمام المتحف المصري الكبير،
تقول مصر للعالم كله:
أنا الماضي الذي لا يشيخ،والحاضر الذي لا يخاف
أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق ودراتـه فرائد عقـدي
إن مجدي فى الأوليات عـريق من له مثل أولياتي ومجدي.














