تعود إلى القاهرة بانوراما الفيلم الأوروبي في دورتها الثامنة عشرة بمجموعة جديدة من الأفلام التسجيلية التي تحفِّز التفكير، مُسلّطة الضوء على أبرز الأفلام الواقعية من مختلف أنحاء القارة. من الأفلام الرصدية إلى الجريئة والمتخفية في تمرّدها الهادئ، يجمع البرنامج أعمالًا حاصلة على جوائز من مهرجانات صندانس وكان وفينيسيا وغيرها من أبرز المهرجانات العالمية، ليصل بها إلى الجمهور المصري.
كعادتها، تُلقي الاختيارات الضوء خاصة على الإنتاجات الأوروبية المُشترَكة مع دول الجنوب، مؤكدة على تنوع هذا المشهد السينمائي الإقليمي واتّساعه خارج حدود القارة.
ينضم الفيلم الفرنسي المصري “الحياة بعد سهام” لنمير عبد المسيح إلى برنامج البانوراما بعد النجاح الكبير الذي حققه في مهرجاني الجونة والقاهرة هذا العام.
يتتبع الفيلم محاولة مخرجه مواجهة نقص الإلهام عبر إعادة بناء حياة والدته الراحلة على الشاشة. وتتحول هذه العملية العاطفية العميقة إلى تأمل قوي في الفقد والذاكرة وقدرة السينما على إبقاء الراحلين قريبين من أحبّتهم.
في “أورويل (٢+٢=٥)”، يجمع المخرج الهايتي راؤول بيك صورًا أرشيفية ومواد إخبارية ومقاطع أفلام وخطبًا ليرسم ملامح الاستبداد في مطلع القرن العشرين، كاشفًا أثره المستمر على الحياة المعاصرة. ومن خلال تتبّع جذور نزاعات اليوم، من الحرب الأهلية في ميانمار إلى الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزّة، يقدّم الفيلم نظرة صارمة بلا مواربة على أشكال السلطوية الشمولية الحديثة.
وتتناول عدة أفلام في الاختيارات قضايا سياسية مُلحّة بمهارة فنية لافتة. يقدّم فيلم “”لا أحد” ضد بوتين”، من إخراج ديفيد بورنستاين وبافيل تالانكين، توثيقًا لتحوّل مدرسة ابتدائية في مدينة كاراباش الروسية، التي تعتمد على التعدين، إلى مركز للتجنيد بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا. بواسطة لقطات مصوَّرة سرًا وشهادات مباشرة، يفكّك الفيلم الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان صندانس ٢٠٢٥ آليات الدعاية والبقاء والتواطؤ المعقدة.

في سياق مختلف، ينسج “رسائل من شارع وولف” لأرجون تالوار ما يحمله من أسس سياسية داخل الرحلة الشخصية لمخرجه، وهو مهاجر هندي في بولندا. ومن خلال تجاربه وتجارِب جيرانه في شارع وولف بوارسو، يستكشف الفيلم موضوعات الانتماء والقومية والاغتراب.
يشمل البرنامج أيضًا عدة بورتريهات عائلية حميمة وسير ذاتية تُظهر قدرة السينما على إكساب الروابط اليومية العادية قدرًا من السمو الهادئ.
من جمهورية التشيك وسلوفاكيا يأتي “من الأفضل أن نجنّ في البرية” لميرو ريمو، الحائز على جائزة الكرة الكريستالية في كارلوفي فاري. يتتبع الفيلم التوأمين فرانتا وأوندرا اللذين يعيشان في جبال شومافا، حيث يبدأ رابطُهما القوي بالانقطاع تحت وطأة أحلام وطموحات تتباعد تدريجيًا.

يقدم فيلم “أجنحة مُغرِّدة” للمخرج الكردي همن خالدي تحليلًا إنسانيًا لشخصية أخرى من خلال متابعته امرأة كردية مسنّة ترعى زوجها المريض وطائر لقلق جريح تتبنّاه، بينما تحلم ابنتها بترك قريتهم الجبلية الصغيرة بحثًا عن آفاق أوسع.

وأخيرًا، يقدّم المخرج الإيطالي الشهير جيانفرانكو روزي أحدث أعماله “تحت الغيوم”، الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان فينيسيا، وهو من أكثر أفلام القسم تعقيدًا على المستوى البصري. يرسم الفيلم صورة آسِرة بالأبيض والأسود لمدينة نابولي، مستعرضًا شذرات من الحياة اليومية تحت ظل جبل فيزوف، في منطقة ما زالت تهيمن عليها آثار الانفجار البركاني الذي دمّر مدينة بومبي القديمة.
من الشخصي إلى السياسي، ومن تداخلهما الذي يكاد يكون حتميًا، تحتفي الأفلام التسجيلية الطويلة في بانوراما هذا العام بالسرد الشجاع، وتضخِّم الأصوات التي تتحدى وتستفز لتتركنا أمام أسئلة أكثر من الإجابات، وتدفعنا إلى التفكير في العالم من حولنا بمنظور نقدي.














