بقلم : د.ياسمين جمال
(باحثة دكتوراه الاعلام التربوي بجامعة عين شمس)
لم تعد السلبية التي تهدد شبابنا اليوم وليدة المواقف اليومية أو المحيط الاجتماعي فقط، بل أصبحت “السوشيال ميديا” هي المنبع الأكبر لها، بما تحمله من محتوى سريع يغزو الشاشة في ثوانٍ ويستقر في العقل لساعات طويلة. فالمراهق، بطبيعته الحساسة والمتقلبة، يجد نفسه أمام عالم رقمي مفتوح لا يستطيع دائمًا تفسيره أو التعامل معه بوعي، وهنا يبدأ التأثير الحقيقي للمحتوى الكارثي الذي يتسلل إلى ذهنه دون أن يشعر.
فإن الفيديو القصير الذي يظهر مشهدًا محبطًا، أو خبرًا مُضخمًا، أو تعليقًا يائسًا، قد يغير في نفسية المراهق أكثر مما تفعل محاضرة طويلة أو نصيحة مباشرة. فالإعلام الرقمي يعتمد على عنصر السرعة والمقارنة والإبهار، وهذه العناصر جميعها تُربك مشاعر المراهق وتُحدث داخله اضطرابًا بين ما يفكر فيه وما يشاهده. ومن هنا تتشكّل تدريجيًا حالة من التشاؤم أو القلق أو العدوانية، دون أن يدرك الشاب سببها الحقيقي.
ومع الاستمرار في التعرض لمثل هذا المحتوى، يبدأ المراهق في تكوين صورة مشوّهة عن نفسه وعن المجتمع. فصور “الحياة المثالية” التي يراها قد تدفعه إلى الشعور بالنقص والعجز، بينما المقاطع التي تُظهر العالم كأنه لا يحمل إلا الكوارث والأزمات قد تُربّيه على الخوف وعدم الثقة. كذلك، التعليقات التي تحمل السخرية والتنمر تشجعه ـ من حيث لا يدري ـ على أن يستهين بمشاعر الآخرين أو يقلل من قيمة العلاقات الإنسانية.
ومن جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن بعض الحسابات تعتمد على تغذية السلبية بشكل متعمد؛ لأنها تجلب المشاهدات والتفاعل، فالمحتوى الصادم ينتشر أسرع، والمحتوى المبالغ فيه يثير الفضول أكثر، وهذا يُربك عقل المراهق الذي لا يزال يتعلم فهم العالم. وفي ظل هذا الزخم الهائل من الرسائل السلبية، يصبح الشاب أكثر عرضة لتقلبات المزاج، وفقدان التركيز، والانسحاب الاجتماعي، وربما الدخول في دوائر اكتئاب خفية.
وهنا يظهر دور الأسرة باعتبارها الحصن الأول. فالأسرة ليست مطالبة بالمنع والسيطرة فقط، بل بخلق مساحة آمنة للحوار، يشعر فيها المراهق أنه مسموع ومفهوم. فحين يواجه الشاب محتوى سلبيًا أو مقلقًا، فإنه يحتاج إلى من يشرح له، يطمئنه، ويوجه نظره نحو الجانب الإيجابي.
كما أن مشاركة الأهل في اختيار ما يشاهده الأبناء، ومناقشة الرسائل التي يتعرضون لها، يمنحهم وعيًا نقديًا يحميهم من الانجراف خلف السلبية الرقمية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن تشجيع المراهق على ممارسة أنشطة واقعية ـ مثل الرياضة، والهوايات، والتواصل الاجتماعي الحقيقي ـ يقلّل من تعلقه بالمحتوى الرقمي، ويمنحه توازنًا نفسيًا يخفف من أثر أي سلبية قد يتعرض لها. فالعالم الحقيقي هو الذي يبني الشخصية، بينما العالم الافتراضي قد يشوّهها إذا لم يجد من يوجهه.
أما الإعلام، فهو يتحمل مسؤولية لا يمكن إنكارها. فالمحتوى المسؤول قادر على أن يرفع وعي الشباب، ويمنحهم أدوات للبحث والتحليل، ويعرّفهم بالواقع كما هو دون تهويل أو استعراض. والإعلام الجيد لا يخيف الشباب، بل يطمئنهم. لا يصنع لهم عالمًا سوداويًا، بل يفتح أمامهم أبواب الأمل والعمل والمعرفة.
ولا بد أن تتدخل الدولة ـ من خلال التشريعات والضوابط ـ للحد من المحتوى الخطير الذي يستهدف المراهقين، سواء كان محتوى يُشجع على العنف، أو على السلوكيات الخطرة، أو ينشر اليأس والانحراف.
كما يجب دعم المبادرات التي تقدم محتوى إيجابيًا قادرًا على منافسة السلبية بذكاء وجاذبية.
لذا، فإن حماية المراهق من المحتوى الكارثي ليست مهمة فرد واحد، بل مسؤولية مشتركة بين الأسرة والإعلام والمدرسة والمجتمع. فحين نعلّم أبناءنا أن يختاروا ما يشاهدونه بعقولهم لا بفضولهم، وأن يفهموا أن السوشيال ميديا ليست مرآة حقيقية للعالم، وأن القوة الحقيقية ليست في متابعة كل شيء بل في تجاهل ما يفسد الروح… عندها فقط نضمن أن ينشأ جيل سوي، قوي، وواعٍ بما يكفي ليواجه سلبية العالم دون أن ينكسر.














