قالوا الشَّجَن بين أشجانٍ وشجون، وما ظلموا المعنى ولا خانوه، بل اقتربوا من روحه حتى كادوا يلمسونه. فالشَّجَن ليس حزنًا عابرًا، ولا وجعًا صارخًا، إنما هو ذلك الالتفاف الخفي في القلب، كتداخل الغصون في شجرةٍ عتيقة، لا تعرف أين بدأ الفرع ولا أين انتهى الظل. هو حزنٌ لا يجيء مستقيمًا، بل متعرجًا، يلتف حول الروح كما يلتف اللبلاب حول الجدار، حتى يصير جزءًا من ملامحه.
ومن الأشجان تولد الشجون، همومٌ صغار لا تُخيف في ظاهرها، لكنها حين تجتمع تصنع ثِقلًا لا يُحتمل. شجونٌ لا تهجم دفعةً واحدة، بل تزحف في صمت، تدخل القلب كما يدخل المساء إلى البيوت، بلا استئذان، وبلا ضجيج، حتى تملأ المكان دفئًا حزينًا لا يُرى، لكنه يُحَس.
ثم قالوا: بل هو صوت الحمام على الغصون. وهنا بلغوا ذروة البيان. فما الشجن إلا هذا الصوت الرقيق الذي لا يصرخ، ولا يشكو، ولا يفضح ألمه، لكنه إذا مرّ بالقلب ترك فيه رجفةً لا تزول. صوت الحمام ليس بكاءً، بل حنين، وليس نواحًا، بل ذكرى. هو حزنٌ مهذب، يعرف كيف يطرق الأبواب دون أن يكسرها، وكيف يدخل الروح دون أن يجرحها.
الشجن ليس للغاضبين، بل للطيبين. ليس لمن يرفعون أصواتهم، بل لمن كُسرت أصواتهم فصار صمتهم أبلغ من الكلام. هو حزن العارفين بأن الشكوى لا تُعيد ما فُقد، وأن بعض الآلام خُلقت لتُحمَل لا لتُقال. لذلك كان صوت الحمام أصدق تعبير عنه؛ طائرٌ وديع، يحمل في هديله تاريخ فراقٍ طويل، ولا يزال يُغني.
وفي حياتنا، كم من شجنٍ مرّ بنا متخفيًا في هيئة ذكرى، أو اسمٍ عابر، أو مكانٍ لم يعد لنا. كم من وجعٍ سكننا دون أن ننتبه، حتى صار جزءًا من نبرة أصواتنا، ومن نظرة أعيننا، ومن طريقة صمتنا. الشجن لا يُرى، لكنه يترك علاماته على الوجوه، في تلك المسافة الخفية بين الابتسامة والعين.
أما الكُتّاب، فهم أبناء الشجن بامتياز. لا يكتبون لأنهم سعداء، بل لأن في صدورهم شيئًا يريد أن يخرج في هيئة جمال. يحولون وجعهم إلى لغة، وحزنهم إلى موسيقى، وأشجانهم إلى شجونٍ تمشي بين السطور. الكاتب الحق لا ينوح، بل يُهدهد ألمه بالكلمات، كما تُهدهد الأم طفلها حتى ينام.
وهكذا يظل الشجن…
لا عاصفةً تُسقط الأشجار،
بل نسمةً تُحرّك الغصون،
ولا صراخًا يمزق الصدر،
بل صوت حمامٍ يقف على غصن القلب، فإذا سمعناه… عرفنا أننا ما زلنا بشرًا.














