في أحد المولات التجارية الشهيرة، استفزني المشهد لدرجة أنني توقفت لأتأكد من شيئين معاً، أولهما أن الذي يرتديه حلق فعلاً مثل الذي ترتديه البنات، والأمر الثاني أن الشخص مصري صميم وليس خواجة رغم أن ملامحه واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.
بالطبع مارأيته حالة نادرة وغير مألوفة بين شبابنا لكن الخوف ــ كل الخوف ــ أن يتحول الأمر الى موضة مثل البطلون الممزق الذي ترتديه الفتيات دون خجل وكان في البداية مستفزاً ومستنكراًن وبمرور الوقت أصبح شيئاً عادياً، وتلك هي الكارثة.
ومخطيء من يتصور أن القصة لاتعدو كونها مجرد موضة جديدة او افتكاسة من بعض الشباب، باعتبار أن العالم بات قرية صغيرة مايحدث هنا يؤثر هناك في أقصى الأرض، ومن ثم ستغزونا وتستهوي شبابنا ــ أو بعضهم ــ عدداً من التقاليع التي لاتستسيغها الأعراف السوية.
ومخطيء أيضاً من يتصور أن منطقتنا العربية مجرد سوق لما ينتجه الغرب من المنتجات الإستهلاكية التي يتم تطويرها باستمرار مع المبالغة في “الأوبشن” لاستنزاف ثراوتنا، أو الى السلاح الذي يبيعونه لبلادنا وللطرفين المتصارعين معاً.. الحليف في العلن والعدو في السر Under The Table .
الحقيقة إن بلادنا العربية أصبحت سوقاً لكل شيء ومنها ــ أو في مقدمتها ــ مايصدرونه لنا من قيم مستوردة سواء من خلال طرح الأفكار غير النمطية التي تهدف الى الهدم والتغييب على المدى القصير والمتوسط والبعيد أو حتى عبر تدمير الأخلاق من خلال إدخال أنماط مستحدثة من ملابس الشباب أو العلاقات غير السوية التي لاتتناسب أو تتسق مع طبيعتنا وربما تكون غير ملائمة أو حتى مرفوضة أيضاً في بعض المجتمعات الأوروبية المحافظة، وما أكثرها.
***
في كتابه “جرأة الأمل” يتناول الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما رؤيته ــ ومخاوفه ــ على المجتمع الأمريكي عبر تناول تجربته في بداية دخوله الى عالم السياسة وخوصه إنتخابات الكونجرس عن ولاية إيلينوي، ومخاوفه من الإنفتاح الثقافي في عصر السماوات المفتوحة وإنتشار وتوحش وسائل التواصل التي ألغت الحدود والخصوصيات بين الدول.
“أوباما” يعري المجتمع الأمريكي ويكشف سوءاته وعوراته خاصة فيما يتعلق بالتربيطات الإنتخابية وشراء الأصوات، وهو أمر شبيه جداً بما يجري في بلدان العالم الثالث وربما بصورة أشد بشاعة.. الإشكالية أن من يقول لنا ذلك هو من أصبح بعد سنوات قليلة من اصداره للكتاب أول رئيس أسود يدخل البيت الأبيض.
دعك من الإنتخابات وألاعيبها وتعالى الى الأهم والأخطر.. فـ “أوباما” يخشى على الولايات المتحدة من الإنفتاح الثقافي، بل أنه يراى الأمر بمثابة شيطان سيقوض بلاده وينهي نفوذها الى الأبد، يأتي هذا في الوقت الذي يخشى فيه العالم وخاصة البلدان المحافظة من الغزو الثقافي الأمريكي.
إنه اللغز المحير خاصة وأن “أوباما” السياسي والرئيس الذي صدَّر لنا وللعالم كله أسوأ نموذج للغزو الثقافي، ففي عهده انطلقت المنصات ووسائل التوصل لتنفث سمومها في العالمين، وبين “أوباما” المثقف خريج هارفارد الذي أعطانا دروساً في كيفية ــ وضرورة ــ حماية القيم والأخلاق ثم جاء بـ “أستيكة كبيرة” ليمسح بسلوكه وأفعاله كل ماقاله في السابق.
إنها لعبة السياسة.
***
أثبتت التجربة والتاريخ عدم جدوى الحروب التقليدية باستخدام الجيوش لغزو البلدان والسيطرة على قرارها، وأصبح البديل الأسهل والأكثر جدوة والأرخص تكلفة هو استخدام القوة الناعمة Soft Power لهدم الأوطان بأيدي أبنائها، والأمثلة أكثر من أن تحصى في زمن الفيس بوك وتويتر وأنستجرام وغيرها من مواقع التواصل أو بالأحرى معاول الهدم والدمار.
إن الغرب “أمريكا وشركاؤها” الذين يصدرون السلاح لمنطقتنا ليقتل بعضنا البعض هم أنفسهم الذين يبتكرون المنصات التي من خلالها يصدِّرون لنا قيماً بديلة تلغي شخصيتنا وتحولنا الى مسوخ بلا هوية، بإعتبار أن القيم والأخلاق هي السياج الذي يحمي المجتمع ــ أي مجتمع ــ من الإنهيار والسقوط.
أيمن عبد الجواد