“إن التطور الذي يشهده العالم من الناحية الرقمية والتكنولوجية أصبح من أساسيات الحياة، كما بات التعايش معه ضرورة وحاجة ملحة لا غنى عنها، وأضحى جزءا من المستقبل –إن لم يكن المستقبل كله- ونتيجة لتغلغل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتعدد الوسائط الحديثة في حياة البشر كان لها القدرة على إعادة البناء وإحداث نوع من التأثير قلما نتخيله، فاليوم لم تقتصر وظيفة التكنولوجيا على تلبية الاحتياجات فقط، وإنما تعدت ذلك لتصبح عاملا من العوامل التى تشكل الثقافة والوعي والسلوك”.
بهذه الكلمات استهلت دكتورة بخيتة حامد إبراهيم، مقدمة بحثها المهم الذي يحمل عنوان (الرقمية وأدب الأطفال) الصادر في سلسة “الكتاب الأول” التي يصدرها المجلس الأعلى للثقافة، وكون أن هذا الكتاب باكورة أعمالها المنشورة، فقد بذلت الباحثة فيه جهدا كبيرا ولافتا، حيث جاء في وقته بالضبط، وساحة أدب وثقافة الطفل تتهيأ كلية للاتجاه بقوة نحو الرقمية، باعتبارها أصبحت ضرورة وليست طرفا، فطفل اليوم يفضل التعامل مع الميديا الحديثة في كل شئون حياته، ويقضي الساعات الطويلة أمام جهازه اللوحي من موبايل، أو أيباد، أو تابلت، أو لاب توب.. وغيرها من وسائل الاتصال الحديثة، يتواصل مع الآخرين، ويبحث، وينقب، ويتعلم كل يوم جديد.
يقع الكتاب في ثلاثة فصول ومقدمة، الفصل الأول (مدخل الثقافة التكنولوجية والأطفال) جاء تمهدا للقارئ للدخول إلى هذا العالم والتعريف به، فشمل، تعريف تكنولوجيا الاتصال الحديثة، ووظائفها التي تمثلت في الآتي:
-الوظيفة التعليمية المعرفية: تتعلق بنقل المعلومات والخبرات والأفكار إلى الآخرين من أجل رفع مستوياتهم العلمية ودمجهم في المجتمع ومواكبة التطورات.
-الوظيفة الاجتماعية: وذلك من أجل تحسين العلاقة بين الفرد ونظامه الاجتماعي والسياسي، وتضمن العمل والتفاعل الإيجابي بين الفرد والنظام سواء اجتماعيا أو سياسيا.
-الوظيفة الترفيهية: وذلك للترويح عن النفس وتخفيف متاعب الحياة من برامج فنية مختلفة جذابة.
-الوظيفة الثقافية: تسعى لنقل التراث الثقافي من جيل إلى آخر، وذلك للحفاظ على مر العصور.
ثم عرج الكتاب على “الثقافة التكنولوجية” باعتبارها تساعد على تطوير الثقافة وتشكيلها، وتعطيها طابعا متجددا يضيف إلى الثقافة بعدا جماليا جديدا.
كما استخلصت الباحثة العديد من الصفات التي يمتلكها الطفل المثقف تكنولوجيا، والتعريفبسلبيات التكنولوجيا على الأطفال، وهى كثيرة وملموسة لكل أفراد المجتمع، على الرغم من أن الوسائل التكنولوجية لها كثير من المزايا والايجابيات في إيصال المعلومات وقرب التواصل، وتتمثل السلبيات على علاقات الفرد سواء داخل أسرته أو خارجها، إضافة إلى الآثار السلبية الجسدية والنفسية والاجتماعية والثقافية التي قد تحدثها، فالإنسان أصبح منبهرا ومنجذبا لأحدث الوسائل.
وبينت الباحثة دور الأسرة والمعنيين برعاية الأطفال ضد مخاطر التكنولوجيا والتقنيات الحديثة والحد منها وعدم الإفراط فيها، واختتمت هذا الفصل بأن التنمية الثقافية للطفل العربي تحتاج إلى تخطيط علمي واع تنهض به الدول، ويراعي فيه:
-توفير التجهيزات التي تسهل نشر الخدمات الثقافية، ووضع مناهج وتقنيات ادارية تسمح بتقويم الخدمات الثقافية وتحليلها ونقدها، وفتح معاهد لإعدادالمشرفين على الثقافة وادارة المنشآت التي يرتادها الأطفال، ووضع خططا لنشر كتب للأطفال تغطي جوانب مكتبتهم، وتلبي حاجاتهم القرائية في مراحلهم العمرية، والتكامل بين الرؤية والكفايات البشرية، ووضع سياسة ثقافية تشمل التنمية الاجتماعية كلها.
ويأتي (مستقبل الكتاب الورقي في ظل الوسائط الثقافية الرقمية الحديثة) فقد شهد القرن الحادي والعشرون تطورا كبيرا في مجال التكنولوجيا الحديثة، وأصبح الفرد لا يستغنى عنها لما توفره من خدمات وما تقدمه من معلومات بطرق سهلة وسريعة، وعبر وسائل متعددة ومتنوعة، ومن ثم لا نجد مجالا ولا تخصصا ولا مؤسسة إلا ونجد فيه التكنولوجيا وكأنها جزء لا يتجزأ منها.
وعرفت الباحثة بالكتاب الورقي وأهميته ودوره، ومميزاته وسلبياته، ومستقبل المصادر الورقية: فقد بات مستقبل الكتاب الورقي قاب قوسين أو أدني؛ نتيجة للثورة المعلوماتية والإلكترونية وتعدد الوسائط المستخدمة وسهولة النشر، وبين ارتفاع تكلفة الطباعة والتخزين والتوزيع للكتاب الورقي في مقابل وجود قرص يحتوي على مئات بل آلاف الكتب والقواميس والمجلدات، كأنها مكتبة شاملة محملة في قرص تغني القارئ عن الذهاب إلى المكتبة.
كما عرفت بالكتاب الإلكتروني، وأنواع الكتب الإلكترونية، وتمثلت في: الكتب التي تقرأ على جهاز خاص، والكتب التي تقرأ على الأجهزة المحمولة، قراءة الكتب على الحاسوب الشخصي.
أما الكتاب الإلكتروني بحسب طبيعة المحتوي، فيشمل: الكتاب الإلكتروني ذو النص الكامل، والكتاب الإلكتروني النصي المصور، والكتاب الإلكتروني متعدد الوسائط.
ثم وضحت مميزات الكتاب الإلكتروني وفقا للمستفيدين، ووفقا للمكتبات، ووفقا للمؤلفين، ووفقا للناشرين، وعيوب الكتاب الإلكتروني التي تمثلت في:
-عدم القدرة على قراءة الكتاب الإلكتروني في مختلف الأماكن والوضعيات، وضعف الخبرة في معرفة الوصول للكتاب الإلكتروني، ومشكلة الملكية وحقوق المؤلف والقيود المتعلقة بالنشر والتوزيع،عدم توفر أجهزة لاستخدام المحتوي الإلكتروني: مثل جهاز الكمبيوتر أو جهاز الكتاب الإلكتروني أو الموبايل خاصة لدى الدول النامية التي تعاني الفقر والحاجة، وصعوبة القراءة من الشاشة للأجهزة الإلكترونية مما يصيب العين بالإجهاد الشديد أثناء القراءة، والتسويق الإلكتروني للمحتوى: فعلى الرغم من كل المغريات التي يظهرها النشر الإلكتروني فإنه مازال هناك الكثير من العمل المطلوب لتسويق المحتوي ألكترونيا.
كما عرجت الباحثة على تعريف النشر الإلكتروني الذي يتمثل في ثلاث طرق، هي: النشر الإلكتروني عن طريق الأقراص، والنشر الإلكتروني عن طريق الكتب الإلكترونية، والنشر الإلكتروني عن طريق الإنترنت.
ومميزات النشر الإلكتروني الذي يتميز بمجموعة من الخصائص، هي: قلة التكلفة، توفير المساحة، واختصار الوقت، والسرعة والدقة في عملية البحث، حيث التفاعلية، ودمج الصورة بالصوت، وسهولة التوزيع وسرعته.
أما الفصل الثاني تحت عنوان (أدب الطفل في ضوء الوسائط الرقمية) وبدأته الباحثة بالحديث عن الأدب الرقمي الموجه للطفل، وما الرقمنة.
وكما قيل أن الأدب الرقمي الذي يوجه للطفل “هو جنس أدبي جديد يارب مرحلة الطفولة، وهو توليفه من المؤثرات اللسانية وغير اللسانية حيث تتغير فيها أطراف المنظومة الإبداعية ويتجدد فيها الجهاز المصطلحي، ليصبح بذلك المبدع منتجا والقارئ مستخدما، وتختلف فيه عمليتا القراءة والكتابة…”، وعرجت على أهداف الرقمنة، المتمثلة: في “الحفظ” و”التخزين” و”الاقتسام” و”وسرعة الاسترجاع وسهولة الاستخدام.
وأوضحت أن نشأة التقنيات وتطورها مرت بثلاث مراحل نشأ ورسخ فيها أدب الطفل، تلك النشأة بدت على شكل ارتباط جوهري بالتقنية المتاحة، في كل مرحلة: المرحلة الشفاهية ثم المرحلة الكتابية وأخيرا المرحلة الرقمية.
كما أوردت الباحثة “كيفية استفادة أدب الطفل من الوسائل الإلكترونية” في ظل التسابق المحموم من تجار الإلكترونيات في تقديم كل جديد يبهر الأطفال ويسلبهم من بيئتهم وثقافتهم لابد من ثورة إلكترونية مضادة تتضامن فيها المؤسسات الثقافية الحكومية والأهلية لتقديم كل ما هو بديل للطفل العربي بدلا من أن يظل حبيسا لثقافة ليست ثقافته، وقيما لا تمثلقيمة دينية ولا وازعا أخلاقيا له، غذ ينبغي ان نوظف أدب الطفال الحديث من مسرحيات طفل إلى أناشيد إلى أغان غلى قصص لإخراجها إلكترونيا وتقديمها للطفل في قالب مشوق..
ثم تنتقل بنا إلى ركائز أدب الطفل الرقمي، والفارق بين المؤلف الرقمي والمؤلف الورقي، ثم الوسائط المتعددة (المؤثرات السمعية والمؤثرات البصرية) تعد الوسائط إحدى مظاهر التقنيات الحديثة والمتطورة التي تستخدم في وسائل الإعلام، ويمكننا القول إنها مزيج من الصوت والصورة والموسيقى… غلخ لتصبحمادة مرئية تعرض على المتلقين.
والوسائط المتعددة هى عدد من الأدوات التي لا بد من التعرف عليها، حيث إن هذه الوسائط تحتاج إلى مجموعة من الأجهزة والمعدات لتفعيلها وتشغيلها والتحكم بها، ويمكن وضعها في الآتي: الأدوات السمعية، والأدوات المرئية.
ثم تعرج بنا الباحثة على جزئية مهمة في هذا الفصل، وهى “أجناس الأدب الرقمي الموجه للطفل”:
القصة الرقمية: إنها نص يعتمد على مؤثرات مرئية وسمعية تفتح للطفل عالما خياليا، فالطفل الذي يقرأ قصة عن البحار والأمواج يستطيع اليوم مشاهدتها بتقنية جيدة تمنحه الصور المضيئة وتطرق آذنه تلاطم الأمواج وتأسره درجات الألوان المختلفة. وقد أوردت سلبيات القصة الرقمية، ودللت ببعض نماذج منها للتوضيح.
النص الشعري الرقمي الموجه للطفل: وإذا كنا نتحدث في الفقرة السابقة عن ذلك النوه من الشعرالذي يتلقاه الطفل عبر وسيط ورقي، مثل: جوهر عصره، فإننا هنا نشير إلى نوع آخر عرف بالشعر الرقمي الذي يقدم من خلال الشاشة الزرقاء والمعتمد علي الصيغة الرقمية الثنائية 0/1 في التعامل مع النصوص.
وهنا تؤكد على وجود فروق جوهرية بين المصطلحات (التفاعلية، الرقمية، الإلكترونية) مع إنها جميعا تشترك جميعا في أنها تشير إلى النصوص الشعرية التي تقدم عبر الوسيط الإلكتروني.
النص المسرحي الرقمي الموجه للطفل: وهو المسرح الذي يوظف التقنيات الحديثة والذي لا يشترط وجود الخشبة ولكنه يشاهد من خلال الحاسوب، وعليه فإن المسرحية تعرف بأنها “نمط جديد من الكتابة الأدبية يتجاوز الفهم التقليدي لفعل الإبداع الأدبي الذي يتمحور حول المبدع الواحد، إذ يشترك في تقديمه عدة كتاب، كما يدعي المتلقي/ المستخدم أيضا للمشاركة فيه، وهو مثال للعمل الجماعي المنتج، الذي يتخطي حدود الفردية وينفتح على آفاق الجماعة الرحبة.
تكمن أهمية الفصل الثالث (آراء حول الرقمنة قي مجال أدب الأطفال) وهو آخر فصول الكتاب في أنه عبارة عن استطلاع آراء بعض الكتاب والمتخصصين والمهتمين بالطفولة وأدب الأطفال عن طرح السؤال الآتي عليهم (ما ايجابيات وسلبيات الرقمنة في مجال أدب الأطفال؟ وهل هى فرصة أم تحد؟) وجاءت الإجابات متفاوتة ومتباينة في بعض التفصيلات لكن مجملها اتفق على أهمية الإلكتروني وأن المستقبل له، ولن يلغي الورقي تماما بل سيتراجع لصالح هذا الوافد الجديد الذي فرض نفسه بقوة على ساحة أدب وثقافة الطفل.. ومن هذه الآراء، يقول الشاعر أحمد سويلم: (… فالكتاب الرقمي يعتمد أساسا على الكتاب الورقي لكنه في ظني يفتقد اكتمال الخيال والحركة والمتعة التي يشعر بها الطفل في الكتاب الورقي الذى يصاحبه في كل أوضاعه: جالسا أو مستلقيا علي وجهه أو على ظهره أو ماشيا بعكس الكتاب الرقمي الذي يتصلب الطفل أمامه دون حرية الحركة والاحساس بالمتعة الكاملة. ربما يتحقق في الرقمنة سرعة البحث والحصول على المعلومة، أو ممارسة بعض الألعاب).
أما الكاتبة فاطمة المعدول، فترى أن (الرقمنة أصبحت من متطلبات الحياة، ومع ذلك لا توجد وسيلة تجب وسيلة، كل الوسائل متاحة للطفل، فالكتاب الإلكتروني له سحره، كما أنه أرخص سعرا، وفي متناول أيدي الأطفال، وقد ساعدت جائحة كورونا على انتشاره، فالطفل ظل حبيسا بين جدران المنزل، حرم من اللعب والتجمع مع أصدقائه والخروج للترفيه عن نفسه، فوجد في السوشيال ميديا ضالته، وقد زاد هذا الأمر من عبء الأسرة في متابعة أطفالهم والبقاء معهم لرؤية المحتوي الذي يشاهدونه ويتعرضون له خاصة الأطفال في سن مبكرة، وفي المقابل يظل الكتاب الورقي له جمال وسمات تميزه، مثل: ملمسه الورقي، وضعه بجوار الصغير أو في حضنه).
أما الشاعر عبده الزراع، فيقول (بلا شك يوجد تحد وصراع بين الورقي والرقمي، والأجيال القديمة تكره الرقمي؛ لأن الإنسان عدو ما يجهل، أما الأجيال الجديدة تتعامل معه بسهولة لأنهم أبناء هذه الثقافة. والمسألة في النهاية سوف تحسم لصالح الإلكتروني، وهذا هو تطور الحياة، ولكن ربما يأخذ وقتا طويلا نسبيا وليس معني ذلك أن الرقمي سيلغي الورقي، سيكونان جنبا إلي جنب، ولكن ستكون الغلبة للرقمي، وأري أن الرقمنة فرصة ولا بد من التشبث بها حتى لا نكون متخلفين عن الركب، أي ضرورة أن ندخل الرقمي ونتعلم تقنياته).