بقلم: عثمان الدلنجاوي
المصريون يملكون طاقات خلاقة لا تقل أبداً وربما تفوق في إسهامها أكثر شعوبا الأرض تقدماً.. ولسنا في حاجة إلى دليل على نفاسة معدنهم في الشدائد وشخصيتهم الحضارية المتفردة التي استقت حكمتها من جوف التاريخ ووعت دروسه وعبره وهزمت الغزاة واستعصت على عوامل التذويب وطمس الهوية ..وبنظرة فاحصة لما يقدمه مصريونا في الخارج من عطاء وإنجازات أسهمت ولا تزال في نهضة الدولة المضيفة لهم، وتدعو للفخر والاعتزاز يتبين لنا أنهم قادرون على فعل الشيء نفسه في بلدهم وصنع نهضته وريادته متى توفرت لهم الظروف ذاتها.
ويكفي أن نعرف مثلاً أن تحويلات المصريين بالخارج بلغت في العام الأخير 28.5 مليار دولار مقارنة بنحو 25.2 مليار دولار خلال الفترة ذاتها من العام المالي السابق 2019- 2020..في حين بلغت صادرات الدولة المصرية من السلع والخدمات نحو 29.3 مليار دولار خلال العام 2020؛ أي بفارق يقدر بنحو 800 مليون دولار ؛ الأمر الذي يعطي مؤشراً قوياً ودلالة لا تخطئها عين بأن جهد 11مليون مصري بالخارج فقط يقترب من إنتاج دولة بكامل أجهزتها ومواطنيها في توليد العملة الصعبة مع الفارق طبعاً في نسبة إسهام كل منهما في إجمالي الناتج المحلي.
معين الإبداع لا ينضب هنا في أرض الكنانة؛ وليس أدل على ذلك مما يقدمه أبناؤنا النوابغ في الجامعات ..ولو أن جهة تحصي ما تفرزه عقولهم من أفكار خلاقة في مشروعات التخرج مثلاً وبراءات الاختراع..وفيها ما يمكنه من إحداث نقلة نوعية في حياة البلاد والعباد إذا وجد طريقه للتطبيق..وأبرز مثال على ذلك مشروع “حياة كريمة” أيقونة هذا العصر وهو من بنات أفكار الشباب الذين رعتهم الدولة واستمعت إليه ووضعت أفكارهم موضع التنفيذ.
وهنا يمكننا القول إن البشر هم كلمة السر في معادلة التقدم وإن الاستثمار فيهم ينبغي أن يسبق ما عداه في سلم الأولويات؛ تعليماً وصحة ورعاية اجتماعية.. كما أن ابتعاث روحهم الحضارية والوطنية العالية شرط لأي نجاح قومي.
وكم من ملمات ومآسٍ وتحديات مفصلية عاشها المصريون بثبات وإيمان ووعي وحب جارف لوطنهم؛ فآزروه واستبقوا لنصرته وافتدائه برضا وقناعة وتضحية قلما تجدها في شعوب أخرى..فعلوها بعد نكسة يونيو حين خرجوا رافضين تنحي زعيمهم الخالد جمال عبدالناصر، وغالبوا أحزان النكسة واستردوا زمام المبادرة باستنزاف العدو الإسرائيلي ثم بادأوه بهجوم العبور الذي استرد الأرض والعرض والكرامة..ثم لبوا نداء رئيسهم حين دعاهم للإسهام في حفر قناة السويس الجديدة، وسارعوا بضخ 68 مليار جنيه في أقل من 10 أيام؛ لا لشيء إلا لنصرة وطنهم والذود عنه في معركة البقاء والبناء، وكانوا الظهير والسند لدولتهم..ومن ثم فهم الدرع والسيف، والغاية والمنتهى، من أجلهم تقام المشروعات، وتقدم الخدمات، وتأتي الحكومات، وبفضلهم تبقى الأوطان وتستمد روحها ووجودها..فلا أقل من الاستثمار فيهم وتهيئتهم لتحمل تبعات العصر وتحدياته الجسام.
ما تفعله الدولة باحتضان المواهب في المدارس والجامعات خطوة تقطع الطريق على هجرة العقول واستنزاف الأدمغة المصرية..وينقصها مبادرة جادة ومدروسة من رجال الأعمال، بمد يد العون للنوابغ من طلابنا، وكفالتهم علمياً، وبسط التمويل اللازم لتحويل أفكارهم إلى منجزات ومخترعات بإمكانها أن تولد الثروات وتبني لمصر صروحاً كبيرة في عالم الإنتاج الفكري والإسهام العلمي وبناء المعرفة..وهذه هي الفريضة الغائبة في مصر؛ الدور الاجتماعي لرأس المال الوطني..فلدينا نوابغ وكوادر وخامات طيبة فماذا ينقصنا..؟!