»»
ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لأدباء ومواهب أرض الكنانة.. ومن مجموعتها القصصية “هي والظل”، أهدت الكاتبة الأديبة جيهان عوض منصة المساء إحدي إبداعاتها في ثياب القصة القصيرة
من مجموعتها القصصية(هي والظل)،والتي صدرت قبل عدة أشهر عن دار إشراقة للنشر والتوزيع المجموعة القصصية..
وهي كما تقول عنها الاديبة تلاثون قصة وقصة، لثلاثين عقدة وعقدة لا تنفك إلا بقراءة الواقع جيدًا، غزلت ذواتها وعوالمها بنسيج واحد متعدد الألوان، ربما تتشابه أو تتباين في صراعاتها وتناقضاتها واضطراباتها لكنها تظل حبيسة في طيات الكتمان لأن محلها صدر أنثى..
🍂
( رسائل شجية)
اعتدتُّ أن أحفظَ نصوصي على حسابٍ لي على تطبيق (واتساب) صُنع خصيصًا لهذا الغرض، محادثة بيني وبيني، أرسل لها كلَّ ما أودُّ الاحتفاظ به تحسُّبا لأيِّ مشكلة تحدثُ على الجهاز، لا أعرف مدى أمان هذه الطريقة ولكنَّها كانت نصيحةَ زوجي لي، إذ إنَّه هو مَن أنشأه على جهاز الكمبيوتر خاصَّته, وعلَّمني كيفية استخدامه بواسطة الهاتف.
كان صندوق الرسائل في هذه المحادثة مملوءا بالعديد من النصوص وتسجيلات بصوتي لبعض القَصائد المحبَّبة لدي، والكثير من الصور الخاصَّة جدًّا والتي لم يطلع عليها أحد، أحيانًا كنت أسكبُ فيها ما يؤرِّقني وأعاود صياغته بأسلوب أفضل، ثمَّ أقوم بحذف الصورة الأولى للكلام، بتُّ ألجأ لهذه المحادثة في كلِّ مرةٍ أشعر فيها بضيق.
وبعدَما كانت مأمنًا لكلِّ ما يهمني؛ صارت موطنًا لكلِّ ما أهمني! بعدما كانت مُلتقى إبداعي أسميتها صندوقَ أوجاعي، حتى أصبحت حائط مبكاي وملاذي وملتقى بوْحي. مَن ذا الذي يحتمل كلَّ هذا الألم غير حائط أصم، يتلقَّف كراتِ همومي دون أن ينبسَ أو يضجره شكواي كجميع البشر من حوْلي. امتلأتِ المحادثة بالدموع والأوجاع حتى إنَّني كنت كلما أردت أن أصرخَ أهرولُ إليها وأصرخُ وأصرخ صرخات تصدعُ جدران قلبي، لا يسمعُ صداها إلّاي، كنت أكتبُ الآهاتِ بطول السطر وأبكي، لم يشغلني وقتَها سلامة اللغة ولا علامات الترقيم، المهمُّ أن أفضي بما أسررتُه وأخفيتُه عمَّن حولي، وإن لم أجد إلا الصمت!
وفي ليلةٍ من ليالي فبراير الباردة التي تنذرُ بهبوب الرياح، كنت حريصة على إغلاقِ نوافذي وأبوابي اتَّقاء شرِّ العواصف, لكنَّها أتتني من الداخل وعصفتْ بمشاعري؛ إذ هبَّت عاصفةٌ من عواصف زوجي المباغتة، ثورة من ثَوراته التي لا تُبقي ولا تذر، هو لا يدري أنَّ ما أشعر به حيالَ ما يفعلُه يفوق احتمالي، كما أنه لا يدرك أنَّ العالم كله إنْ أحزنني لا يعادل كلمةَ توبيخ يقذفها صوْبي دون أن يلقي لها بالًا، مُتناسيًا أنه الأب حينما فُقد الأب, وأنه الأمُّ عندما رحلت الأم, وأنه الأخ وقتما غابَ الأخ، وأنه الابن حين كُتب عليَّ أن لا يحملَ رحمي روحًا منه. لم يُقدر تضحيتي فيما فعلته وتَنازلي عن حقّي في الأمومة وأنا أعْوَزُ مَن يهفو لهذا الشعور! حيث لا أب ولا أم ولا أخت ولا أخ، فقط هو، ويا ليته ملأ تلك الفراغات بل أثقب مكانَه بثقوبٍ سوداء لا يُرى منها إلا ما هو مؤسِف، يرهبني الغوص في كلماتِه ويزعجني الإنصاتُ لما يقول ويرعبني كوْني وحيدة لا أجد مَن آوي إليه في ظلِّ هبّاته المتواترة. دوامات من الأعاصير أخرج منها كلَّ مرةٍ بحال أهونَ ممّا سبق، إلى أن صرتُ كغيمة ضبابية تحجب ما خلفها.
صرتُ بتلك الليلة أهونَ من أن أكتب أحزاني، أرسلت تسجيلًا يلي تسجيلًا أفرغتُ فيهم جلَّ غضبي وثورتي، قلت ما لا أستطيع مواجهة زوجي به، آلمتُه مثلما آلمني، خلتُه أمامي وراشقته بكلمات قاسية مثلما يقسو عليَّ بأفعاله، كلمات ينزُّ منها الحسرة ويعقبُها الدموع، بكيت كما لم أبكِ من قبل حتَّى أخذتني غفوةٌ وأنا على أريكتي ومازال الهاتف بيدي..
لم أدرِ كم غفوتُ ولكني حينما أفقت فتحتُ عينيَّ بصعوبة بالغة ووجدت ما لم أتوقَّعه، ارتبتُ لمَا رأيت وخفق قلبي، كيف هذا؟! اتَّسعت عيناي وأنا أنظرُ للمحادثة وقد ظهر أنَّ شخصًا ما يكتب على الجانب الآخر ولكن كيف؟! ومَن يكون هذا الشخص؟ إنه أنا، رقمي!
راقبتُ ما يحدث في ذهول، ارتعدتْ أوصالي وكدتُّ أدفع الهاتف بعيدًا من شدَّة خوفي، بيدَ أنَّ فضولي كان أكبرَ من أن أفعل ذلك، دقيقة، دقيقتان، ثلاث دقائق وأنا بين حيرتي وارتياعي أتلاشى..
جُملةٌ واحدة بعدَ طول الانتظار، قرأتها وأنا أتلعثمُ وكأني أتعلَّم الهجاء:
“أنتِ طالق!”.