بقلم : د. أميرة ماهر رزق
(أخصائى نفسى اكلينيكى بمستشفى ميت سراج للصحة النفسية وعلاج الأدمان)
هل سبق أن لاحظت كيف يختلف سلوك المراهق في البيت عن خارجه؟ هل يعود ذلك فقط لطبيعته، أم لأن أسلوب الأباء والأمهات يترك أثرا عميقا في تكوين شخصيته واستقراره النفسي؟ المراهقة مرحلة حرجة لتكوين الهوية والانفصال النفسي والعاطفي عن الوالدين. يمر فيها المراهق بتغيرات جسدية ونفسية واجتماعية كبيرة، وأي خلل في علاقته بمصادر الأمان الأساسية ينعكس لاحقا في سمات شخصية حدية.
أسلوب تربية الوالدين يلعب دورا محوريا في تشكيل شخصية المراهق واستقراره النفسي، ويعتبر أقوى متغير تنبؤي في اضطرابات الشخصية، إذ يحدد أنماط التكيف والانفعالات التي يطورها الطفل.
والسؤال الذي يثير الفضول: هل تأثير الأب أكبر أم الأم؟ وهل يمكن لأساليب المعاملة أن تتنبأ بظهور اضطراب الشخصية الحدية؟
اخترت هذا الموضوع لأن العلاقة بين المراهقين والوالدين ليست مجرد رابط عاطفي، بل عامل أساسي في تكوين الشخصية واستقرارها النفسي. تشير الدراسات الحديثة إلى أن أسلوب المعاملة الوالدية يمكن أن يكون مؤشراً مهمًا على احتمال ظهور اضطرابات معينة، منها اضطراب الشخصية الحدية، الذي يتميز بعدم استقرار المشاعر، سلوكيات اندفاعية، وصعوبات في العلاقات الاجتماعية.
في بحثي درست مجموعة من المراهقين بهدف التنبؤ باضطراب الشخصية الحدية من خلال أساليب المعاملة الوالدية، ومعرفة مدى تأثير كل من الأم والأب على ظهور سمات هذه الشخصية، وكذلك الفروق بين الذكور والإناث. وتركزت النتائج على نقاط مهمة:
دور الأم: كان له الأثر الأقوى والواضح في التنبؤ بسمات الاضطراب. أسلوب الأم في التعامل مع المراهقين يؤثر بشكل كبير على قدرتهم على ضبط المشاعر وإدارة الصراعات الداخلية. المراهقون الذين شعروا بالدعم والاحتواء من الأم كانوا أقل عرضة لظهور سمات الشخصية الحدية.
دور الأب: تأثير الأب أقل وضوحا لكنه مكمل ومهم، فهو يعزز الثقة بالنفس والانضباط الذاتي لدى المراهقين. حضور الأب وتفاعله الإيجابي يساهم في بناء شخصية مستقرة ومتوازنة.
الفروق بين الجنسين: العلاقة بين أسلوب الوالدين وسمات الشخصية الحدية تختلف بين الذكور والإناث، فالإناث أكثر تأثرا بأسلوب الأم، بينما يتأثر الذكور بشكل أكبر بأسلوب الأب في بعض الجوانب، خاصة في إدارة الانفعالات والتعامل مع الفراغ الداخلي.
لتقريب الصورة، يمكن تخيل حالتين: مراهقة تحظى بدعم واحتواء الأم، قادرة على التعبير عن مشاعرها بشكل صحي، مقابل أخرى تفتقد هذا الدعم فتظهر سلوكيات اندفاعية أو شعورا بالفراغ العاطفي. وعلى نفس المنوال، وجود أب متفاعل يعزز ثقة المراهق بنفسه وقدرته على الانضباط، بينما غيابه أو تجاهله قد يترك فجوة عاطفية وسلوكية.
رسالة مهمة للآباء والأمهات:
1. تعزيز الأساليب الإيجابية:
احرصوا على الدعم العاطفي، والتقدير، والتشجيع لأبنائكم، فهذا يعزز استقرارهم النفسي ويقلل من احتمالية ظهور اضطرابات الشخصية.
2. الابتعاد عن الأساليب السلبية:
تجنبوا القسوة، الإهمال، الرفض أو الانتقاد المبالغ فيه، لأنها تزيد من مخاطر الاضطرابات النفسية عند المراهقين.
3. التواصل المفتوح:
حافظوا على حوار مستمر وصادق مع الأبناء، لتتحدثوا بانتظام مع الأبناء عن حياتهم اليومية، أصدقائهم، ومخاوفهم، واستمعوا لمشاعرهم وأفكارهم دون أحكام، لتقوية الثقة بينكم.
4. الوعي بالاختلاف بين الأب والأم:
كل من الأب والأم له دور فاعل في تربية المراهق، فاحرصوا على تنسيق أساليب التربية بينكم لضمان بيئة مستقرة ومتسقة.
5. متابعة التطور النفسي:
انتبهوا لأي تغيرات سلوكية أو انفعالية عند المراهق، واستشيروا أخصائي نفسي عند الحاجة قبل تفاقم المشكلات.
6. توفير بيئة داعمة وآمنة:
احرصوا على بيئة منزلية مليئة بالحب والاستقرار والاحترام، فهذا يعزز القدرة على التعامل مع الضغوط والمشاعر بشكل صحي.
7. تقديم القدوة: المراهقون يتعلمون من سلوك الوالدين أكثر من الكلمات، لذا احرصوا على التعامل مع الضغوط بطريقة هادئة ومتزنة.
توصيات عملية للآباء والأمهات:
– خصصوا وقتا يوميا للتفاعل الإيجابي مع ابنائكم ، حتى لو لبضع دقائق فقط.
– استخدموا أسلوب الحوار بدلا من النقد المباشر، وركزوا على الحلول بدلا من العقاب فقط.
– لاحظوا التغيرات العاطفية والسلوكية لدى المراهق، واستعينوا بالخبراء النفسيين عند ظهور أي علامات شاذة أو مقلقة.
– شجعوا استقلالية المراهق مع توفير الإطار الآمن الذي يسمح له باتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية تدريجيا.
وفى النهاية أرى أن أسلوبنا في التعامل مع المراهقين ليس مجرد طريقة تربوية، بل مفتاح لصحة شخصيتهم النفسية، وأداة للتنبؤ بمستقبلهم العاطفي والاجتماعي. الاهتمام بالأسلوب الوالدي اليوم يحدد مدى توازن وسعادة المراهق غدا
فعلاقة المراهق بالوالدين هي حجر الأساس لتكوين شخصيته واستقراره النفسي. اختيار أسلوب المعاملة الوالدية بحكمة ووعي ليس رفاهية، بل استثمار حقيقي في صحة الأبناء النفسية والاجتماعية، وقد يكون العامل الحاسم في الوقاية من اضطرابات الشخصية المستقبلية.
وتربية الأب والأم تكمل بعضها، والأسلوب المتوازن بين الحب والحدود الصارمة، والحنان مع الانضباط، هو العامل الأهم في صناعة مراهق متزن نفسيا. وعليه، فإن فهم أساليب المعاملة الوالدية يساعد الأهالي على الحد من مخاطر ظهور اضطرابات انفعالية وسلوكية، بما في ذلك سمات الشخصية الحدية.














