بداية، فإنى أرفض كل الدعاوى والأساطير التي تدّعى حقّا إلهيًا، أو تاريخيًا، لليهود في فلسطين، مقابلًا لحق الشعب العربي في فلسطين في الأرض التي يحيا فوقها منذ مئات السنين.
في تقرير سري ، كتبه كامبل بيترمان رئيس وزراء بريطانيا عام 1902، يقول:” إن هناك قومًا يسيطرون على أرض واسعة تزخر بالخيرات الظاهرة والمغمورة، وتسيطر على ملتقى طرق العالم. وهي وطن الحضارات الإنسانية والأديان، ويجمع هؤلاء القوم ديانة واحدة ولغة وتاريخ واحد، وآمال واحدة، وليس هناك أي حاجز طبيعي يعزل القوم عن الاتصال ببعضهم البعض. ولو حدث واتحدت هذه الأمة في دولة واحدة، في يوم من الأيام، لتحكمت في مصير العالم، ولعزلت أوروبا عنه، ولذلك يجب زرع جسم غريب في قلب هذه الأمة، يكون عازلًا من التقاء جناحيها، ويشتت قواها فى حروب مستمرة، ورأس جسر ينفذ إليه الغرب لتحقيق مطامعه”( الأهرام 24/5/1976 ).
إن عمليات القتل العشوائي والمذابح المتوالية وغير المبررة التي تنفذها القوات الإسرائيلية، لا تستهدف مجرد التأديب والتخويف والإرهاب – وكلها أهداف مرفوضة! – لكنها تستهدف – فى الدرجة الأولى – تقليص الشعب الفلسطينى في الأراضي المحتلة. وهو ما يتمثل في العديد من القوانين والإجراءات التي اخترعتها إسرائيل، مثل تحويل عرب القدس من مواطنين إلى مقيمين، وتكبيلهم بقيود تصل إلى حد منعهم من العودة إلى بيوتهم، وإزالة البيارات والمناطق السكنية بدعوى منع الإرهاب الفلسطيني.
انتزعت العصابات الصهيونية: الهاجاناه، وشتيرن، وغيرها – بالقوة المسلحة – 76% من مجموع مساحة الأرض الفلسطينية. وهو ما يلغي الأكاذيب – التي صدقناها وروجنا لها! -أن اليهود اشتروا الأرض التي استولوا عليها من أصحابها.استعادتالعصابات شعارًا قديمًا للأوروبيين: إن الهندي الجيد هو الهندي الميت، فقال مناحم بيجين: إن العربي الجيد هو العربي الميت.
ضخامة العمليات العسكرية الإسرائيلية بما لا يساوي – بكل المقاييس – حجم الانتفاضة الفلسطينية، تجاوز مجرد إيقاف الانتفاضة. قذف الحجارة، أو إطلاق الرصاص من الأسلحة الصغيرة، أو حتى استخدام الهاون، أو الصواريخ ذات القدرات المحدودة.. يصعب التصور أن تكون مواجهته بالصواريخ وطائرات الإف 16 والأباتشى والغازات السامة والأسلحة المحرمة والسيارات المفخخة ، وغيرها من وسائل الدمار التى يواجه بها الجيش الإسرائيلي تحركات المقاومة الفلسطينية!.
تعددت المذابح الفلسطينية – ومازالت -ليس لمجرد تحقيق حلم الدولة، وتوسيعها، وإنما للقضاء على الشخصية الفلسطينية، على الهوية الفلسطينية. وكما يقول الكندي مايكل نيومان ، فإن كل إسرائيلي يهودي ـ حتى الأطفال ـ هم أدوات توجه ضد الشعب الفلسطيني.
قتل الفلسطينيين وتهجيرهم ، وتفريغ المدن والقرى الفلسطينية من أبنائها ، هدف أول للدولة الصهيونية. وهى قد سعت إلى ذلك من قبل إعلان قيام الدولة .
مسلسل القتل اليومى لأبناء الشعب الفلسطينى جزء من مخطط إسرائيل لمنع الخطر المتوقع بغلبة العنصر العربي- المسيحى والمسلم – فى أفق المستقبل، ومن حق الشعب العربي بعامة، والشعب العربي الفلسطيني بخاصة، أن يلجأ إلى كل الوسائل لمنع اندثاره من فوق أرضه.
ولأن اليهود في أوروبا وأمريكا الشمالية قدموا إلى وطن لم يشاهدوه من قبل، حيث يقيم بشر آخرون، يمتلكون الأرض، ولهم عاداتهم وتقاليدهم وسلوكيات حياتهم اليومية، فإن الأمر جاوز محاولات سرقة الأرض، والتراث، والموروث، إلى الإقدام على تدمير هذا التراث، وهذا الموروث، حتى الأزياء والطعام والفنون، حتى الكوفية الفلسطينية الشهيرة، جرى تزويرها برسوم مغايرة، ما يصعب سرقته يقدم على تدميره، إلغائه، محاولة شطبه من الذاكرة الإنسانية. كما تعددت عمليات إحراق تدمير المساجد والمنشآت الدينية الإسلامية، والمدارس، والأحياء القديمة، ومتعلقات الكنائس والأديرة والبنايات التاريخية. وعلى حد تعبير إدوار سعيد: ” لقد تم اقتلاع مجتمع يتكون أساسًا من العرب الفلسطينيين من جذوره، وتم تدميره”.
ولأن إسرائيل تسعى – من ناحية – إلى سرقة التراث الفلسطيني العربي، ونسبته إليها، وتحاول – من ناحية ثانية – طمس الهوية العربية – حضاريًا وتاريخيًا – فإن القانون الإسرائيلي – خلافًا لكل قوانين العالم – يأذن بالإتجار في القطع الأثرية!. وما لم يلحقه السطو أو السرقة، فإنه يواجه الإهمال، وغياب العناية والترميم، أو محو صفته، وهو ما حدث فى العديد من الأماكن الفلسطينية التاريخية التي تحولت إلى إسطبلات، أو حانات.
وكما نذكر، فقد اشترط قرار الأمم المتحدة بقبول إسرائيل عضوًا فى المنظمة الدولية عدم المساس بوضع القدس، واحترام اليهود، بالصورة التى نص عليها قرار تقسيم فلسطين، والسماح للفلسطينيين بالعودة. لكن ذلك كله-ـ بعد انقضاء عشرات الأعوام – لم يتجه خطوة واحدة نحو التنفيذ.
ولعل النظرة المتأملة تبين عن تناقضات كثيرة في العملية السلمية بين العرب وإسرائيل، أولاها أن أصحاب الأرض يظلون في المنافي، أو يعودون وفق شروط أقرب إلى المستحيل [ عودة المهجرين أخطر العقبات فى جدول المباحثات الفلسطينية الإسرائيلية! ] بينما كل الأبواب تفتح أمام المستوطنين. أنت يهودي، فمن حقك أن تحيا في إسرائيل. لا شأن لذلك بالوطن الذيأتيت منه. الفلسطيني لا يعرف له موطنًا ووطنًا إلا فلسطين. أما اليهودي فهو وافد من روسيا أو أوكرانيا أو بولندة أو الولايات المتحدة أوغيرها من بلدان العالم..
والحق أن رفض المشروع اليهودي الاستيطاني لم يقتصر على الفلسطينيين، ولا على الشعب العربى بعامة، لكنه شمل الكثير من الأقطار والتجمعات، ولعلى أشير إلى الراباىYisroelweiss وهى جماعة يهودية تكونت للعمل ضد إنشاء دولة إسرائيل. وتدين فكرة تحويل اليهودية من ديانة روحية إلى شيء مادي ذو هدف قومي للحصول على قطعة أرض ” وجميع المراجع قالت إن هذا الأمر يتناقض مع ما تدعو إليه الديانة اليهودية، وهو أمر محرم قطعيًا فى التوراة لأننا منفيون بأمر من الله “. تضيف الجماعة ” يجب أن نعيش – اليهود – بين جميع الأمم، كما ظل يفعل اليهود منذ أكثر من ألفي عام كمواطنين مخلصين، يعبدون الله، ويتصفون بالرحمة الربانية. وعلى عكس مما يعتقد الناس، فإن حروب الدولة العبرية ليست دينية، فقد كنا نعيش بين المجتمعات المسلمة والعربية دون أن تكون هناك حاجة إلى رقابة منظمات الأمم المتحدة لحقوق الإنسان”.
لذلك، فإن المجتمع الصهيوني سيظل مهددًا من الداخل، وبفعل التناقضات التي تحدث فيه تأثيراتها السلبية. لكن تفجير هذه التناقضات – أو تقريب تفجيرها فى الأقل- لن يتحقق إلا بالضغط من الخارج، بالمقاومة في كل أبعادها، بمواجهة التحدي الحضاري من ” الآخر ” بما يوازيه، أو يتفوق عليه. وكما يقول عبد الوهاب المسيري فإنه إذا لم يتحرك العرب، فإن الأزمة ستستمر، والتهام الأرض العربية سيستمر، إن لم يذكّر المستوطنين اليهود أن أصحاب الأرض يقاومون، ويطالبون بحقوقهم.