كتبها- وليد شاهين
قرأ أول فجر بعد انتصارات أكتوبر.. ولُقِبَ بـ “قارئ النصر والعبور.. والقارئ الفقيه.. وأستاذ الوقف والابتداء والتلوين النغمي”
موهبته فى التصوير النغمى للقرآن أصبحت محل اهتمام الباحثين ورسائل الدكتوراة
رفض طلب السادات للقراءة فى وفاة والدته.. ليفى بوعده فى إحياء عزاء صاحب فراشة
تفنن محبيه فى تلقيبه.. وكان يتمنى أن يقرأ فجر أول يوم نحارب فيه العدو الإسرائيلى لاستعادة عزتنا وكرامتنا بين الأمم فكان له ما تمنى دون سابقة ترتيب.. فقرأ فجر الأحد 7 أكتوبر 1973 من المسجد الزينبي.. فلُقِبَ بـ “قارئ النصر” و”قارئ العبور”، لكن أهم هذه الألقاب وأشملها هو “أستاذ الوقف والابتداء والتلوين النغمي”.. تميز بقوة صوته وقراره المكين.. وظهرت براعته في شدة إحكام وقفه الذي لا يخل بالمعنى ولا بالأحكام ولذلك أطلق عليه عباقرة القراءة فى عصره بـ”القارئ الفقيه” لأنه يبدع ويبتكر جديداً في الوقف.. حصل أحد الباحثين في علوم القرآن على رسالة دكتوراة تخصصت فيما تفرد فيه شيخنا الجليل تحت عنوان التصوير النغمي للقرآن الكريم “علم التنغيم”.
وُلِدَ الشيخ “محمد عبد العزيز بسيونى حصَّان” صبيحة الأربعاء 22 أغسطس عام 1928 فى قرية “الفرستق” بمركز كفر الزيات بمحافظة الغربية, ساعده فقد بصره صغيراً على حفظ القرآن الكريم فى كُتَّاب القرية على يد الشيخ “على عز الدين” وتم حفظه كاملاً وهو ابن العاشرة من عمره، ثم ألحقه والده إلى كتّاب الشيخ “عرفه الرشيدي” والذى يقطن بقرية “قسطا” المجاورة لقريته وكان الشيخ “محمد حصَّان” يتردد كل يوم على الكتّاب سيراً على الأقدام بصحبة والده وتعلم على يديه أصول التجويد وأحكام التلاوة والقراءات السبع وحفظ متن الشاطبية في مدة لا تزيد على عامين فقط فأصبح عالماً بأحكام القرآن فى الصغر، ليثبت للجميع أنه يستحق أن يلقب بالشيخ “محمد” كما كان يلقبونه صغيراً.
لم يكتف بهذا وإنما ظل يتردد على الشيخ “عرفه” ليراجع عليه كل يوم قدراً من القرآن, كما اعتاد الشيخ “محمد” على استغلال فترة سيرِهِ من قريته إلى “قسطا” مُتَرَجِلاً فى تلاوة القرآن بصوت ندى وتجويد وتنغيم بالسليقة التي اكتسبها عن طريق سماعه لمشاهير القراء آنذاك، حتى اكتشف شيخه إمكانياته الصوتية الهائلة مبكراً وشجعه على التلاوة بصوته الشجى، وفى ذات يومٍ سمعه صديق شيخه، وكان يدعى “عبدالرحمن بك رمضان” فى حفلٍ ديني حضره مشاهير القراء آنداك، وتنبأ له “عبدالرحمن بك” بأنه سيصبح من كبار القراء فى مصر.. حتى مرت الأيام وتحققت نبوءته.. وذاع صيت الشيخ وأصبح علماً من أعلام قُرَّاء محافظات الوجه البحرى وهو ابن السابعة عشر من عمره.
تأثر الشيخ “حصَّان” بقراءة وطريقة أداء الشيخ “مصطفى إسماعيل” وكان مثله الأعلى فى عالم التلاوة، حيث بدأ حياته مقلداً له، ثم تفرد بمدرسته الخاصة فى القراءة، وقضى أعواماً عديدة قارئاً للقرآن في المآتم والسهرات والمناسبات المختلفة استطاع خلالها أن يبني مجداً وشهرة لا نظير لها فى وقته، حتى التحق بالإذاعة المصرية واعتمد بها عام 1964 مما زاد من شهر الشيخ وذيوع صوته داخل القطر المصرى والدول العربية، وانهالت عليه الدعوات من الدول الإسلامية والمراكز الدعوية فى أطراف العالم، لكنه كان قليل الأسفار وكان يعتذر عن تلبية الكثير من تلك الدعوات، ومع هذا فهو يُعد الوحيد من بين مكفوفي البصر من القراء الذي سافر لإحياء ليالي شهر رمضان بدعوات رسمية وخاصة من معظم دول الخليج العربي.
قال له الشيخ “محمود خليل الحصري” ذات يوم: “يا شيخ محمد سيكون لك مستقبل عظيم لأنك تهزني داخلياً بخشوعك وتعبيرك وقوة تصويرك لما تقرأ.. فصوتك يؤثر في القلب مباشرة”، وقال له إمام الدعاة الشيخ “محمد متولى الشعراوى” بعد استماعه لقراءة الشيخ فى عزاء بالمنصورة: أراك يا شيخ حصان ممن يعبرون أثناء تلاوتهم تعبيراً جيداً حيث تتباكي عند آيات العذاب والوعد والوعيد.. وعند آيات الفرح تهلل تهليلاً أي “تبشر”.. ودعا له قائلاً: جعلك الله من المبشرين بالجنة إن شاء الله.
من المواقف المشهودة للشيخ “حصَّان” أن رجل يدعى الحاج “خليل” يعمل فرَّاش بجوار إحدى المدارس بكفر الزيات وكان محب للشيخ حصان، أوصى أبناءه قبل وفاته بدعوى الشيخ للقراءة في مأتمه، ورغم ضيق ذات اليد وعدم قدرتهم على تحمل تكاليف إقامة سرادق عزاء، قاموا بدعوة الشيخ صبيحة وفاة والدهم وأخبروه بحالهم ووصية والدهم.. فسرعان ما ستجاب الشيخ وتعهد بالقراءة متطوعاً وتحمل جميع تكاليف العزاء, وقبل إقامة السرادق تلقى اتصلاً من الفريق “محمد سعيد الماحي” برئاسة الجمهورية لحضور عزاء والدة الرئيس السادات، ولكن الشيخ “حصَّان” اعتذر لهم عن عدم الحضور لأنه مرتبط بقراءة في عزاء أخر -عزاء الحاج خليل- ثم تم دعوته بعد ذلك لإحياء حفل أربعين والدة الرئيس السادات فوافق الشيخ, وعندما حضر استقبله “السادات” مداعباً وقال له: “والله أنت كبرت في نظري قوي يا مولانا عندما علمت أنك اعتذرت عن الحضور في مأتم والدتي لتفي بوعدك مع أولاد عمي خليل بتاع الفراشة”.
عُيِّنَ الشيخ “حصّان” قارئاً للسورة في المسجد الأحمدي بطنطا بقرار جمهوري من الرئيس السادات في عام 1980.. ويعتبر القارئ الوحيد في تاريخ الإذاعة والتلفزيون الذي قرأ قرآن الفجر و قرآن الجمعة في يوم واحد في الإذاعة المصرية في مدينتين مختلفتين وكان ذلك فى عام 1985.
توفي الشيخ “محمد عبدالعزيز حصَّان” صبيحة يوم الجمعة 2 مايو عام 2003، وفي عصر ذلك اليوم توفت زوجته، بعد أن ترك للإذاعة تراثاً كبيراً يزيد عن 10 آلاف ساعة قرآنية.. رحم الله شيخنا الجليل رحمةً واسعة على ما قدمه لكتاب الله العزيز.