كتبها- وليد شاهين
شهيد الفجر.. صدق الله فصدقه الله
“إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي” كانت أخر ما نطق بها لسانه فى قرآن الفجر على الهواء مباشرةً
بدأ حياته مهاجراً إلى كتاب الله وهو طفلاً صغيراً.. وامتدت به رحلة الهجرة حاملاً لآى الذكر الحكيم لنحو56 عاماً.. ظل خلالها متنقلاً بين هجرةً لمحارم الله.. وهجرةً إلى مقاصد العلم والتلاوة.. حتى ينهل من معينها الصافى.. حتى أتى يوم سعده مساء يوم خميس عندما هاجر من بلدته بالشرقية إلى القاهرة لقراءة قرآن فجر الجمعة فى رمضان عام 2003 عبر أثير إذاعة القرآن الكريم والبرنامج العام وفقاً للجدول الموضوع للقراء والمبتهلين فى البث المباشر.. أتى وقت الفجر.. وما هى إلا لحظات حتى قدمه المذيع فى نقلٍ حى لشعائر صلاة الفجر من مسجد السيدة نفيسة رضى الله عنها بالقاهرة.. وبدأ الشيخ فى القراءة من سورة العنكبوت بمقام البياتى حتى وصل إلى قوله تعالى: ” فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”.. لكن الشيخ توقف هذه المرة بعد قراءة تلك الآية ليهاجر أيضاً.. هجرةً أخيرة إلى جوار ربه.
إنه الشيخ “عثمان الشبراوى” المعروف بـ “شهيد الفجر” كما أطلق عليه، والمولود يوم السبت الموافق 12 أكتوبر عام 1946، بقرية البيروم مركز فاقوس بمحافظة الشرقية.
بدأ الشيخ فى حفظ القرآن الكريم صغيراً، حتى أتم الله عليه حفظه كاملاً ومجوداً وهو ابن الحادية عشر عاماً من عمره، علي يد والده الشيخ “الشبراوى”، والذى لم يتوانى عن تعليم ابنه علوم القراءات السبع، حيث كان الوالد يعمل مُحَفِظَاً لكتاب الله فى قريته.
ألحقه والده الشيخ “الشبراوي” بمعهد فاقوس الديني، ثم انتقل بعد أن تخرج فيه إلى دار المعلمين بفاقوس، وبعد تخرُجِهِ عُيِّن مدرساً للقرآن الكريم بالمرحلة الإبتدائية بوزارة التربية والتعليم حتى ترقي إلي درجة موجه عام.
شارك الشيخ “عثمان” خلال هجرته شاباً -حاملاً للقرآن الكريم فى صدره- كبار القراء فى فترة الستينيات وأحيا معهم الحفلات والمناسبات الدينية، وكان والده يدفعه دفعاً إلى تتبع حفلات القراء المميزين منهم لكى يتعلم من طريقة أدائهم وتوظيفهم للمقامات الصوتية فى تلاوتهم للقرآن، الأمر الذى أثقل موهبته حتى أصبح صوته من الأصوات التي تركت أثرًا كبيرًا في الساحة القرآنية، فهو حفظ كتاب الله عز وجل والتزم بأحكام التلاوة والتجويد، ثم استطاع تطويع الصوت حسب الآيات التي يتلوها، وحين يتردد صوته في جنبات المكان سابحـًا في السماء مرددًا كلمات الله التامات يلتف حوله المستمعون وكأنهم يسمعون القرآن لأول مرة، وذلك لأنه قارئ يمتلك أدواته، ويجيد اختيار المقامات وتطويعها حسب معانيها.
من المواقف الطريفة التى تعرض لها الشيخ أثناء مسيرته القرآنية، أنه تلقى دعوة لإحياء سرادق عزاء فى إحدى القرى المجاورة، وبالفعل اقتطع الشيخ عدة ساعات من وقته وذهب ملبياً لإحياء السرادق، وعندما وصل إلى العنوان المحدد فى الموعد المحدد لم يجد أى مظاهر على وجود حالة وفاة، وعندما سأل الشخص الذى استقبله والذى سبق أن تلقى منه الدعوة قال: “إن الميت هو أبى لكنه لم يمت بعد!!” فتعجب الشيخ وقال له: “إذن لماذا دعوتنى.. بارك الله لكم فى عمر أبيكم”.. فرد عليه الداعى بأن والده فى النزع الأخير، وتبين للشيخ أنهم حباً فيه تم دعوته لإحياء ليلة أبيهم المتوقعة حتى لا يحجزه أحداً غيرهم فى اليوم المتوقع، عندها تأكد للشيخ أنه وقع رهن تصرفات غير مسئولة من أبناء الميت المحتمل!! فطلب الإذن بالرحيل، لكنهم لم يأذنوا له حتى يمضى ليلته فى ديارهم، وفى الليل أتاه أحدهم وأطل عليه من نافذة الحجرة التى كان يجلس فيها، وقال له: “يا شيخ.. ألم أقُل لك بأن والدى سيموت، استعد فقد مات الوالد.. ونعمل حالياً لنصب صوان العزاء”.
عندما أراد أن يذهب لاختبارات الإذاعة استقلَّ أثناء ذهابه إلى مبنى ماسبيرو عربة “حنتور” فأطلقوا عليه الشيخ “رفعت الجديد”، وذلك لأن الشيخ “محمد رفعت” والشيخ “محمد الصيفى” وهم من الرعيل الأول كانوا يذهبون إلى الإذاعة من خلال هذه الوسيلة القديمة فى التنقُّل، ونال الشيخ إعجاب لجنة الاختبار من الوهلة الأولى وتفوق بامتياز وتم اعتماده بالإذاعة فى ديسمبر عام 1980، على الرغم من أنه عندما دخل مبنى الإذاعة يوم الامتحان ونظر إلى أعضاء اللجنة كانت تتملكه رهبةً وخوفٍ شديدين للدرجة التى جعلته يتحجج بأنه سوف يذهب لإحضار “بكو بسكوت” لكى يتمكن من الانصراف من ماسبيرو بدون أن يخوض تجربة الاختبار حتى قابله سكرتير لجنه الاختبار ورده عن هذه الفكرة حتى ينتهى من الاختبار.
الشيخ “عثمان الشبراوى” كان أحد أبرز الأعضاء نقابة قراء القرآن الكريم بالشرقية وكان خير السفراء للقرآن الكريم فى بقاع الأرض، حيث سافر إلى العديد من البلدان، وتلا القرآن على ملايين الآذان، العربية منها والأجنبية، وكانت أفضل أسفاره إلى قلبه زيارته للأراضى الفلسطينية، حيث نزل بالمسجد الأقصى قارئاً مرحباً به كريماً، فقرأ وأبدع فى تصوير أروع التنزيلا، فأدهش السامعون، والتفَّ حوله المعتكفون، وتأثر بقراءته المرابطون، وقام إليه الشيخ عكرمة صبرى شيخ الحرم المقدسى، وأكرم مثواه، وأحسن إليه وهداه من الخير الذى أعطاه، ومنحه شهادة تقدير إعجاباً بموهبته، وصدق سريرته.
توفي الشيخ “عثمان الشبراوي” في 23 من شهر رمضان عام 1424 هجريا الموافق 2003 م عن عمر ناهز 56 عاماً، بعد أن تعرض لأزمة قلبية حادة أثناء قراءته لقرآن الفجر من مسجد السيدة نفيسة العلم على الهواء مباشرة.. إلى أن اضطر القائمين على وحدة الإذاعة الخارجية لقطع البث بحجة وجود عطل فني، واستكملوا البث بشريط مُسجل للشيخ فتحي المليجي.. تاركاً للإذاعة المصرية والمكتبة الصوتية الكثير من التلاوات القرآنية.. رحم الله شيخنا الجليل رحمة واسعة على ما قدمه فى خدمة القرآن الكريم.