مسارب الروح هي المجموعة الثانية لسماح محمد علي بعد مجموعتها الأولي” جنوح” الصادرة 2017. عنوان المجموعة لا يخلو من شاعرية، يصلح أن يكون عنوانًا لديوان شعرى.
تميل الكاتبة إلي كتابة القصة الموباسانية، حيث يتخذ البناء السردى خطًا أفقىًا ممتدًا لا تعترضه أحداث، أو اشتباكات، مفاجآت تغير من مسار القصة، مما يسم القصة بالبساطة والسهولة.
المدهش أن العالم القصصى لدي سماح يعتمد علي تيمات أهمها الظلم والقهر والقلق النفسى، حيث ترتدى شخصياتها أقنعة تخفي خلفها الرياء والقسوة، وإن بدت – ظاهريًا – مسالمة وضعيفة وهشة. تنحج سماح في تضفير هذه المعادلة التي تبدو صعبة، فهى تتعمد كشف الجوانب الخفية من حياة شخوص قصصها، من اللحظة الأولى تشرع في تلمس جوانب الاضطراب في تلك الشخصيات، ومن ثم فغالبية شخصيات المجموعة تقع في أتون القلق، عبر أزمة الإنسان والزمن.
الزمن مهم في هذه المجموعة، تبدأ القصة من الآني لتعود إلي الماضى، كاشفة عما حدث من تغيرات وتبدلات في مصائر البشر، وهى في رسمها لتلك الشخصيات إما أن تتعاطف معها، أو تدينها، ولأنها تنطلق من موقف أخلاقي، فإن أزمات الشخصيات تبدو مأساوية، ولا حل لها.
من القصص ذات البناء الموباساني قصة ” قلب مفتوح”. الشاب يقف في الشرفة يلوح للفتاة رشيقة القوام التي تبدل ملابسها ذات الألوان الزاهية الجميلة وتصميماتها المتعددة، وبالطبع يدرك المتلقي – قبل نهاية القصة – أن هذه الفتاة ماهى إلا مانيكان تضع عليه السيدة العجوز ما تصنعه، فما يجرى علي لسان العجوز يؤكد حدسنا، هل فقدنا الاتصال المباشر، صرنا أشياء لا تشعر بدفء التواصل المباشر؟ ألم يجد الشاب فتاة تلفت نظره ليحبها. صرنا نعيش في جزر منعزلة، لا روابط بينها، فتحولت أرواحنا إلي مجرد مشجب تعلق عليه الملابس!
سمة أخرى للقصة عند سماح محمد، هى الرومانسية التى ستؤثر في تشكيل العالم القصصي لديها، فشخصيات ضعيفة مقهورة، وأخرى قاهرة لا ضمير لها، تكشف عن مكنوناتها المتوحشة كما في قصة ” دماء مدنسة” فالوحش يستيقظ داخل الرجل منذ البداية، هو يحسد صديقه علي اختياره لمن أحبته، يستكثر عليه هذه الفتاة مليحة الوجه، حلوة القسمات، يحاول الايقاع بها، وحينما ترفض يدعوها إلي مكتبه، ويعتدى عليها، تنتهى القصة بالتركيز على موقف الاغتصاب وبشاعته، ومحاولة الفتاة الدفاع عن شرفها، وقيمها، مقابلًا لتصور تحول الرجل إلي وحش كاسر، فقد إنسانيته. والسؤال هل ماسال من الفتاة يعد دماء مدنسة؟ أم هي دماء الرجل ” اندفعت نحو الباب بملابس ممزقة، وجسد منهك، يترنح تاركة وراءها آثار قدمين طاهرتين مطبوعة بدماء مدنسة”. الصورة تذكرنا بكتابات أجيال سابقة، فالفتاة هنا ضعيفة، رغم علمها نيات الرجل، إلا أنها تذهب إلي مصيرها بقدميها، كأنها واحدة من أبطال التراجيديا، يسير إلي حتفه. ولأن سماح كاتبة رومانسية فإنها لم تستغل مشهد الاغتصاب، فتقدم لنا لفحات جنسية، لكنها تركتنا ندرك الصراع غير المتكافىء بين هذا الحيوان الذى يحاول اغتصاب الفتاة، والضحية البريئة. وهي من الأمور المحمودة في القصة، لأن المشاهذ الجنسية لم تكن تخدم الأثر الذى يحدثه مشهد الاغتصاب في نفس المتلقي.
في قصة ” أرواح مشوهة” سينقلب الحال، فتلعب المرأة / الزوجة دور الشرير، سواء كانت الأم التي تخطط لتزويج بناتها، أو إحداهن من أبناء أخيها، رغم رفضه ذلك. يقع الابن الأوسط في شباك ابنة عمته الصغرى، تدب المشاجرات والخلافات بينها وبين أسرة زوجها، لم ترتدع مع ولادة ابنها الأول، كل هذا والأمور تسير في إطار الأحوال العادية التى تعيشها أسرنا المصرية، لكن المشكلة تتعقد، فتدخل أطراف أخرى. تعلم المرأة أنها تحمل طفلة مشوهة، لكنها توهم الأسرة بأنها تحمل طفلًا، لما للولد من مكانة في الموروث المصري، لكن الزوج بعلم – مصادفة – أن ثمة أوراقًا تخفيها الزوجة عنه تصعب الأمر، فترتفع المشكلة درجة أعلي، وتجتمع الأسرتان لحل المشكلة، فتصبح مشكلة أخلاقية ودينية. يفتي علماء الدين بعدم جواز التخلص من الطفل، وتشكّل رأيان،” ظل الشاب رهين عذاباته، يلزم حجرته أكثر الوقت، أهمل في عمله، وأطلق لحيته، ودموعه لا تفارق عينيه”. وللمرة الثانية يعتمد البناء القصصى علي المصادفة، من خلال سماع حوار بين الزوجة وأمها، وتحل لحظة التنوير” عليك بالاستعداد، سنذهب إلي المستشفى التى قمت لك بالحجز فيها”
لقد اعتمدت لحظة التنوير علي المصادفة، الأمر الذى أربك البنية السردية، وفككها.
في قصة ” ثمن الفقر” يشى العنوان ( لا يخلو من مباشرة )، بمدلول القصة، والدلالات لدى سماح محمد علي واضحة ومباشرة لا لبس فيها أو مواربة، فالفقر موجود، تمثله تلك المرأة التى تعول خمسة أطفال، بالاقتراض من جارها الحاج ” حسن” بائع الخضار. ثم حلت الأزمة الأولي بمرض طفلها باحتقان اللوزتان، ما استدعى إجراء جراحة عاجلة، لكن يصعب على الطبيب أن يجرى جراحة والجسد محموم، ويعاني التهابات، تكثف سماح مشاهد مؤثرة تقترب من المليودراما، كمشهد الأم تمرغ وجهها في تراب حذاء الطبيب، ليسعف ولدها، أو يخفف من أنينه.
مسارب الروح عنوان المجموعة، فمسارب جمع مسرب ، اسم مكان من سرب، مسرب الماء مسيله ومجراه. والمسرب المكان السريع ، يقال مسارب الحيات، لمواضع آثارها إذا انسابت الأرض علي بطونها.
هكذا تعقدت الأمور، وللمرة الثانية يكون الحل في يد ” الحاج حسن”، لكن الرجل ينقلب في لحظة إلي وحش لا يرحم معاناة الأم، وآلام طفلها، فيراودها عن نفسها ” يده تتحسس وجهها، تقبض علي كفها، عيونه تفيض بالغدر تتفلت من قبضته بصعوبة، تلتصق بالجدار”
القصة لا تعالج الفقر فقط، بل تعبر عن هموم هؤلاء الفقراء، وآلامهم، وعجزهم أمام المرض. المشكلات مركبة، ولا تملك المرأة إلا أن تخبط رأسها في الحائط، دلالة مزدوجة علي رفض استغلال الحاج حسن لمعاناتها، وعجزها أمام آلام طفلها المريض الذى يحتضر، لا نجد بصيص أمل أمام الظروف القهرية، فلا سبيل لإنقاذ البشر من هذه الدوامات التى لا تنتهي.
قصص سماح قصيرة لا تزيد عن ثلاث صفحات، وتضم المجموعة عشر قصص قصيرة جدًا، ما يسمى بالقصة الومضة، وفي نهاية المجموعة قصص تشع بالرومانسية، تحلق في بحر الذكريات، تعب منه، وتسبح فى مياهه لاصطياد لحظات دفء، افتقدها أصحابها في الواقع، فبحثوا عنها في ماضيهم وذكرياتهم، لاستحلاب لحظات من السعادة والأمل، ” وتحولت مرارة حلقه، ترياقًا للحياة ” من قصة له في الحياة جديد، أو” أنت الرجاء ، هلا قبلت” قصة ” ظلى” ، و” حتى أصل إلي مسام جلدك” قصة ” نجاة” ، و” فأفاض علي من حوله عسلًا شهيًا” ” قصة ” سطو”.
من القصص التى تنتهي بمفارقة” مرآة الحب”، فالقصة تأخذ مسارات متعددة، رغم أنها تسير في خط تصاعدي ، لكن فكرة الشك والتوتر في العلاقة بين الرجل وإخوته، بسبب التلاسن علي زوجته، ثم اكتشافه أن الزوجة كانت تخرج لفعل الخير، تزور أحد مساجد آل البيت، توزع أكياس الطعام علي المحتاجين أمام المسجد. قبض السارد علي كل خيوط السرد، ولم يتح لنا اكتشاف نهاية القصة، عنوان القصة أسهم في اخفاء مدلولها. ” أما قصة “مرآة الحب” فهي تذكرنا بالمثل الشعبي “مراية الحب عامية”، لكن بصيرة الزوج دلته علي معرفة الحقيقة، لم ينقد وراء افتراءات أخيه وكلام أمه وهمسات الآخرين، فسلك مسلكًا مغايرًا لما توقعناه، هذا من جانب الزوج، بينما تصرفات الزوجة أكدت – في ظاهرها – علي كل ما يقال عنها، نحن أمام قطبين متوازيين حتى لمحها تقارب بين هذين القطبين فيلتقيان. لعبت المصادفة هنا دورًا حاسمًا في تغيير مشاعر الزوج، فتنتهي القصة نهاية تليق بعنوانها ” مرآة الحب”.
تأتى عناوين قصص سماح مسالمة، تهدف إلي موضوعها مباشرة ، كما هو الحال له في الحياة جديد، مس من العشق، حوار مع الشيطان ، وتتكون غالبية العناوين من كلمة واحدة، جفاء، فضيلة، عود، متاهة، خداع، الوطن، تناقض، عيون، انفجار، الثعبان، المبدع، العنوان ينفتح علي دلالة القصة، وهو جزء لا يتجزأ منها، بل هو نص مواز للقصة، هذه العناوين لا تشاغب ذائقة المتلقي، أو تثير خياله، وتحفزه إلي ربط العنوان بمدلول القصة، بينما نجح عنوان المجموعة” مسارب الروح” في تلخيص محتوى القصص، وقد اختار مصمم الغلاف العنوان باللون الأبيض علي خلفية سوداء، فالمقابلة بين البياض والسواد إحدى سمات قصص المجموعة. اعتمد الرسام علي أسلوب التبفيع بين الألوان الأبيض والأحمر والأسود، وانقسم وجه المرأة بين الأحمر والأبيض.
المرأة – في غالبية قصص المجموعة – ضحية العنف والقهر وسوء الظن، ويهيمن علي اللوحة إحساس بأن هناك شخصًا لديه القدرة علي تحريك خيوط دقيقة تمثل قضبانًا، هي سياج تحاول المرأة اقتحامها، لتفسح لوجهها أن يحتل مساحة تشد العين، ورغم أن الرجل هو الطرف الذي يواجه اتهامًا بقهر المرأة وإيذائها، فإن الغلاف يتجاهله تمامًا، فكرة تسويق الكتاب مطروحة، فملامح المرأة تدل علي الشبقية، والمدقق في ملامح وجه المرأة يجد أنها امرأة شبقية تنتمى إلي عصر فائت، فالحاجبان مزجوجان بطريقة معينة، والعينان مكحولتان، و الشفاة الغليظة مصبوغة باللون الأحمر الصارخ، والأظافر مطلية بطلاء أحمر. أين هذه المرأة من نساء المجموعة المقموعات والشقيات بمصائرهن؟
.سماح محمد علي صوت قصص ينتمى إلي كتابات صوفي عبد الله ونهاد جاد وإحسان كمال وسعاد شلش ووفية خيرى، جيل صور – في كتاباته القصصية – ضعف المرأة وانسحاقها أمام إرادة الرجل، ولم يتح المجتمع لها مجرد الدفاع عن أنفسها.
ولعل السؤال الذي يناوش المتلقي: هل تتبدل رؤية القاصة سماح محمد علي للمرأة في أعمالها التالية؟