حالة من الحيرة والإرتباك وإختلال المفاهيم أصابت الكثيرين جراء الحرب الروسية ــ الأوكرانية، بين من يراها غزواً وإحتلالاً لدولة مستقلة ذات سيادة وبين من تعامل مع الأمر بإعتباره دفاعاً عن النفس وتدخل “إضطراري” لحماية الأمن القومي الروسي من حصار “محتمل” لجيوش حلف الناتو التي ستعسكر وتحتشد على الحدود الروسية بعد انضمام الجارة “الصغيرة” للحلف.
ولكي نفهم هذه المخاوف ووجهة نظر الطرفين.. من ينتقد ومن يبرر، علينا العودة قليلاً الى مرحلة الستينيات وتحديداً الى عام 1962م عندما عاش العالم ثلاثة عشر يوماً في حالة رعب من اندلاع حرب نووية تأتي على الأخضر واليابس وتعيد البشرية الى المربع صفر.
بطل القصة في هذا التوقيت لم تكن روسيا “الإتحاد السوفيتي” بل الولايات المتحدة التي هددت بغزو كوبا والتلويح بالسلاح النووي، بعد اتفاق الزعيم الكوبي “فيدل كاسترو” مع الروس على نشر منظومة صواريخ جوبيتر لردع واشنطن، لتصبح كوبا التي تبعد عن ساحل فلوريدا تسعين ميلاً فقط أخطر قاعدة عسكرية روسية لأنها على مرمى حجر من الولايات المتحدة.
وأمام توتر الأجواء والمخاوف الدولية من خروج الأمر عن السيطرة، تم الإتفاق على إزالة الصواريح الروسية مقابل تعهد أمريكي بعدم غزو كوبا، والأهم أن الطرفين “أمريكا وروسيا” دخلا فيما بعد في مباحثات طويلة للحد من الأسلحة الإستراتيجية لادراك الدولتين العظمتين أن العالم كان حافة الخطر.
الذي رفضته أمريكا في الستينيات هو بذات نفسه مايرفضه الروس الآن فالمخاوف والهواجس الأمنية متشابهة، فهل تتم محادثات ــ وصفقات ــ في السر لحل الأزمة بين الكبار سياسياً بعيداً عن التراشق أمام الكاميرات والإفراط في توقيع العقوبات التي قد تضغط على الروس وتدفعهم الى الخطة البديلة “الحرب النووية” ليدخل العالم الى النفق المظلم الذي عاش هواجسه منذ ستين عاماً؟!
***
الحرب مرفوضة بشكل عام، فلا أحد يهوى مشاهد الخراب، لكن ربما الوضع مختلف في الحالة “الروسية ــ الأوكرانية”.. هناك تفهم واضح من المواطنين العرب الذين سئموا من السياسة الغربية التي تكيل بمائة مكيال، فماتعاني منه العديد من البلدان العربية من دمار وخراب ليس إلا إنعكاساً للنموذج الديموقراطي الغربي الذي بشروا به الشعوب ثم تركوها لعصابات من المرتزقة تعيث في الأرض فساداً وقتلاً وتدميراً.
المتابع للسوشيال ميديا سيلاحظ بسهولة أن هناك انتقاداً مباشرة للنظام الحاكم في أوكرانيا ويرى المتابعون أن فكرة إنضمام أوكرانيا الى حلف الناتو غير منطقية ولاتراعي الهواجس الأمنية للجارة “الكبيرة” التي عاشت عقوداً من الحرب الباردة مع الغرب وجاءته الفرصة أخيراً ليتمركز على الحدود الروسية.
ومما يزيد تلك الحالة من التفهم أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي “الممثل السابق” يتعامل مع الأمر في الكثير من المواقف بإعتباره دوراً في عمل درامي ولكن على مسرح العمليات، فهو أول من دعا ــ ووافق ــ على المفاوضات بدعوى تخلي الغرب عنه وأزال حسابات قادة العالم على تويتر، ثم رفض لأن بيلا روسيا مشاركة في الحرب، ثم وافق مرة أخرى، وفي الوقت الذي بشر شعبه باقتراب سقوط كييف في موقف غريب بدأ يهدد ويتوعد الجيش الروسي.. تلك التصرفات المتناقضة وغير المفهومة تطرح عشرات التساؤلات حول علاقته بالغرب، أو بالأحرى مايحاك للروس في الخفاء.
***
قوة الدولة تظهر في المواقف الصعبة وهو مابرهنت عليه مصر في الأزمة الحالة، عندما أقلعت طائرة لاستعادة المصريين من أوكرانيا بتوجيهات من الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعد نقلهم الى خارجها عبر مسارات آمنة حماية لأرواحهم وهو دور كبير قامت به الدولة عبر أجهزتها السيادية والحكومة وسفاراتنا في أوكرانيا وبولندا ورومانيا.
حمداً لله على سلامة أبنائنا.. وتحيا مصر.
أيمن عبد الجواد