الأغنية كلمات ولحن وأداء. إذا تحققت الإجادة في الأبعاد الثلاثة فهي تستحق العلامة الكاملة، تتحول في الوجدان إلى ما يصح تسميته بالكلاسيكية، فنحن نستعيدها، ونردد كلماتها، وندندن بلحنها، في جلساتنا المنفردة، أو في صحبة آخرين.
حين اختار النقاد أغنية الأطلال ضمن أجمل أغنيات القرن العشرين، فلأنها جمعت بين الكلمات الجميلة لقصيدة إبراهيم ناجي، واللحن الجميل لرياض السنباطي، والأداء الجميل لأم كلثوم.
اكتملت الدائرة باقتدار!
ولضفيرة الإجادة من الكلمات واللحن والأداء في أغنية” ياليلة العيد” فإنها في موضع الأولوية بين أغنيات العيد. عشرات الأغنيات تسبق أيام العيد، وتتخللها، تناوش أسماعنا، وقد نستعيد إحداها، لكن تظل أغنية أم كلثوم هي الأغنية المتجددة للمناسبة، تمامًا كما أن أغنية أم كلثوم “يا صباح الخير ياللي معانا” هي أجمل ما نستمع إليه في بدايات كل صباح.
ذلك ما حققته في الوجدان المصري أغنية أحمد عبد القادر” وحوي يا وحوي”. غني لرمضان مطربون كثر، لكن الوجدان يبقي أغنية أحمد عبد القادر التي تذكرني – شخصيًا -بطفولتي، وهي بعيدة. ورغم عشرات الأغنيات التى أدتها شريفة فاضل بصوتها المحمل بالشجن، فإن الأغنية التي نترقب سماعها – والتأثر يشملنا – في اقتراب شهر رمضان من نهايته: ” والله لسه بدري.. يا شهر الصيام”.
تغيظني الأغنية التي لا تتسق كلماتها مع اللحن والأداء.
كنا نعيب على المحب تمنيه أن يكون شبشب الهنا في قدمي فتاته، وقول المحبة إن حبها في ذل خضوعها، وتذكرنا أغنية محمد قنديل ” يا رايحين الغورية” بما أخذه اللورد كرومر على الأغنية القديمة” هاتولي حبيبي”. هل يتكاسل المحب إلى حد مناشدة الآخرين أن يأتوا له بحبيبه؟ وهل يتكاسل المحب في أغنية قنديل، فيطلب من الرائحين إلى الغورية أن يشتروا لجميل الأوصاف حلقًا بدلّاية؟!، ولماذا تلح ليلى مراد على حبيبها بالقول: سنتين وانا حايل فيك.. ودموع العين تناديك. متى كان الحب تسولًا؟. ويتغنى فريد الأطرش بجمال حبيبته، وأنه ” مالوش مثال”، لكنه يضيف: صدق اللي قال: زي الغزال. كيف هو إذن بلا مثال؟!. وإذا كانت فايزة أحمد تخاطب حبيبها – في الأغنية – أنها لم تعد مثل زمان، تعبت، وتغيّرت، ولم تعد تحتمل، فإنها ترجع عن لهجتها المتوعدة بأنها قد تتغير في كل شيء إلًا حبها لفتاها. هو قائم ومستمر. شافت منه الويل، ثم تستثني حبه من غضبها. تذكرنا بالمثل العامي عن ضرب الحبيب!
ثمة أغنيات أحفظ ألحانها، وإن نسيت كلماتها. يجتذبني النغم الموسيقي، فلا تشغلني الكلمات. مجرد دندنة أقرب إلى دندنة الموسيقا الصامتة. وقد يعلو صوت المغنّي، أو المغنية، بلحن راقص، بينما الكلمات تعبير عن الأسى أو الحزن أو الفقد.
أجد المثل في أداء عبد الوهاب لهذه الكلمات التي لحنها من قصيدة علي محمود طه عن فلسطين: أخي أيها العربي الأبيّ.. أرى اليوم موعدنا لا الغدا، إلخ.
مثلًا ثانيًا في أغنية عبد الغني السيد ” عا الحلوة والمرة مش كنا متواعدين.. ليه تنسى بالمرة عشرة بقالها سنين”. أنت تستمع إلى اللحن والأداء، تنسى الكلمات في الإطار الراقص لموسيقا الأعنية وأدائها.
أما الأداء فلعلي أشير إلى إجابة كمال الطويل عن السؤال: ما الأغنية التي ندم عليها في صوت المغني؟.
قال إنه يعتز بأغنية لحنها لفيلم سينمائي، لكنها فسدت بصوت المؤدي. وذكر اسمه، وهذا ما لن أفعله.
ليس المطلوب في المغايرة أن يصف المحب حبيبته التي خذلته بأنها ” عرّة”. هذه لغة شتم وردح لا يصح أن يتخاطب بها أهل الغرام.بل إنها تعيدنا إلى ما رفضه الأجداد من هوجة أغنيات الحرب العالمية الأولي، التي يصعب أن أشير إلى عنواناتها!
نتأمل كلمات أغاني هذه الأيام، الكلمات في شعر العامية جيدة، لكنها تمضي في منزلق الانحدار بواسطة ألحان الهشتك بشتك، أو الأداء الذي يستدعي أنكر الأصوات.
للتدليل على قيمة الكلمة، سابقة للحن والأداء، فنحن نتذكر إحياء أم كلثوم ليلة عيد في بغداد، غنت من كلمات أحمد رامي، ولحن رياض السنباطي، أغنيتها يا ليلة العيد. أدت الأغنية – للمرة الأولى – في فيلم ” دنانير” ( 1939 )، من كلماتها – اتساقًا مع أحداث الفيلم -: يعيش هارون ( الرشيد ).. يعيش جعفر ( البرمكي).. ونحيي لهم ليالي العيد. وبسرعة خاطر، استبدلت أم كلثوم بعبارة ” يعيش هارون.. عبارة ” يعيش فيصل – ملك العراق الراحل -ويتهنى ونحيي له ليالي العيد”.
في ليلة عيد تالية، فاجأ الملك فاروق أم كلثوم بحضوره وهي تؤدي الأغنية في حفل للنادي الأهلي ( 17 سبتمبر 1944 ). ولجأت أم كلثوم إلى حضور خاطرها، فبدلت الكلمات، صارت ” يعيش فاروق ونتهنى على قدومه في ليلة العيد”. وكافأها الملك بمنحها وسام الكمال، فصارت صاحبة العصمة. فلما أزيح فاروق عن حكم البلاد، غنت لقائد الثورة الوليدة ” يعيش نجيب ونتهنى على قدومه في ليلة العيد”. وفرضت الحيرة نفسها على مطربة القرن العشرين، بتولي جمال عبد الناصر حكم االبلاد بدلًا من محمد نجيب. ثم آثرت السلامة، فغنت للنيل: تعيش يا نيل ونتهنى على قدومك في ليلة العيد.
النيل أبقى من الأشخاص!