ولدت فى بيت يطل على جامع. مفردات نشأتى: رفع الأذان من على تمراز، ترامى التسابيح من أبو العباس، تواحيش رمضان – تختلف عن التواشيح -الجلوات المارة أمام بيتنا، الموالد فى الميادين، مواكب الطرق الصوفية من ميدان الأئمة إلى جامع الشيخ إبراهيم، حلقات الذكر على رصيف البوصيرى، خطب الشيخ عبد الحفيظ إمام على تمراز، صلاة الجمعة والعيدين فى ميدان الخمس فوانيس، معهد المسافرخانة الدينى، سوق العيد، درس المغرب، المذاكرة فى صحن جامع قطب الإسكندرية، دوران عربات العرائس فى ساحة السلطان، مقامات الأولياء، وأضرحتهم، والزوايا، والمزارات.
أذكر رؤيتى لمؤذن جامع على تمراز وهو يصعد السلم المعدنى، الحلزونى، ينظر من توالى الكوات بعلو المئذنة، ويلتقط أنفاسه، حتى يبلغ البسطة الصغيرة أعلى المئذنة. يعتدل فى وقفته، ويحيط وجهه براحتيه، ويرفع الأذان. مشهد يتكرر خمس مرات فى اليوم، وإن كانت رؤيتى له بالمصادفة، عندما أكون فى الحجرة المطلة على الشارع الخلفى، أو فى المطبخ الملاصق لها.
لتكرر المشهد، فقد صرت أتوقع التصرف التالى، منذ يطأ المؤذن قدمه على أول السلم حتى يبلغ درجته الأخيرة، ويأخذ وضع التأهب لرفع الأذان.
ثبت ذلك كله فى ذاكرتى، صار جزءًا من تكوينى المعرفى والوجدانى ، نبع ألجأ إليه فى كتاباتى.
أطيل الوقوف على الرصيف الفاصل بين ميدان السيدة زينب ومقام رئيسة الديوان. أميل إلى الشوارع والحارات المحيطة بالمكان: شارع السد والناصرية ودرب الجماميز والدرب الجديد والسباعين وشارع قدرى وبركة الفيل وحارة السقايين والمدبح وزينهم وقلعة الكبش وشارع الجأولى والصليبية وشارع خيرت وأبو الريش. عبق الروحية العطرة يسرى فى الأمكنة جميعًا، كل المقيمين من محاسيب رئيسة الديوان، يتمسحون قربها، ويتذكرون مآثرها، يحملون الأشاير والطبول والزمور والأعلام والكاسات، يتلون القرآن، ويقرءون البخارى، والأذكار.
بحرى – كما تعلم – هو أصل الإسكندرية. التقاء قرية راقودة بجزيرة فاروس. الحى – حتى الآن – هو التعبير عن ” البلد “. يقول ابن الرمل أو محرم بك أو سيدى بشر. أنا نازل البلد. المعنى أنه فى طريقه إلى بحري.
لبحرى خصائصه التي لا تجدها في بقية أحياء الإسكندرية. التقاء اليابسة والبحر من كل الجوانب. شبه جزيرة في شبه جزيرة الإسكندرية، مساحتها كيلو مترًاً مربعًا. غالبية سكان الحى من العاملين فى مهن تتصل بالبحر: صيادين وباعة سمك وغازلي شباك وبحارة وعمال ميناء وصغار موظفين. تتداخل البنية الديموغرافية مع الطبقة الوسطى من ميدان أبو العباس إلى ميدان المنشبة، حيث ينتهي حى بحري، أو ما يسمى – إداريًا – حى الجمرك.
إلى جانب ذلك، فإن الروحانية سمة لافتة فى بحرى. ثمة المرسى أبو العباس، أو سلطان الإسكندرية كما يلقبه السكندريون. من حوله جوامع أولياء الله: البوصيرى وياقوت العرش ونصر الدين وعبد الرحمن وعلى تمراز. وتتناثر – فى شوارع الحى وحواريه وأزقته – مقامات وأضرحة لأولياء آخرين، فتتشكل صورة يصعب أن نجدها في أي موضع آخر، داخل الإسكندرية أو خارجها.
يضيف إلى اكتمال الصورة ما يشغى به الحى – على امتداد العام – من موالد وحلقات ذكر وخيام صوفية وأكشاك ختان، والتقاء الأذان من المآذن المتقاربة في مواعيد الصلاة الخمس ( كان سلامة حجازى رافعًا للأذان في البوصيري وأبو العباس قبل أن يتجه إلى الغناء! ) وأهازيج السحر، والتواحيش، وتذكير الدراويش للمؤمنين بقرب صلاة الفجر.
في خان الخليلى لنجيب محفوظ غنى الأطفال فى استقبال رمضان: صيام صيام.. كما أمر قاضي الإسلام.
لأن قاضى الإسلام كان يقيم فى القاهرة، فلا أذكر أن أطفال الإسكندرية – زمان – أنشدوا تلك الأغنية. قدموا أغنيات من التراث الصوفي – وللإسكندرية بفضل أقطابها الصوفيين نصيب وافر – ورددوا – فيما بعد – أغنيات الإذاعة.
لا أذكر المناسبة التى أشرت فيها إلى الجوامع المتقاربة فى بحرى، بين الجامع والآخر زاوية أو ضريح أو مقام، كأنما الحى قد جُعل للروحانية، أو أن الروحانية قد جعلت له، لكن المعنى – فى ظنى – صحيح تمامًا. عشت فى أكثر من مدينة، وزرت مدنًا فى داخل مصر وخارجها، لم أر مكانًا يضم هذا العدد من أولياء الله.
الولى العالى المكانة هو قطب، والقطب – غالبًا- تتبعه طريقة، لها أوتادها ونقباؤها ومريدوها، ولها أعلامها وشاراتها وأورادها. وإذا كان الأولياء فى بحرى كثر، فإن الأولياء الأقطاب ـ مع بعض التجاوز ـ لا يبلغون العشرة . حدثنى نجيب محفوظ – ذات يوم – عن الفتوات ومساعديهم، الفتوة هو البطل الذى يوجه الضربات، بينما يتلقى المساعدون الضربات التى توجه إليه.
ثمة جوامع أولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم وأضرحتهم. وثمة الموالد وليالى الذكر والأهازيج والأسحار والتواشيح، وليالى رمضان وتياترو فوزى منيب وسرادق أحمد المسيرى وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح فى سراى رأس التين والتواحيش، واحتفالات الأعياد: سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والأراجوز والساحر والمرأة الكهربائية وألعاب النشان والقوة وركوب البنز والحنطور من ميدان المنشية إلى مدرسة إبراهيم الأول، وتلاقى الأذان من المآذن المتقاربة، والبخور والمجاذيب والمساليب، والباحثين عن النصفة والبرء من العلل، والمدد، بالإضافة إلى المعتقدات والعادات والتقاليد التى تمثل – فى مجموعها – موروثًا يحفل بالخصوصية والتميز.
ميدان المساجد منطقة استقطاب لكل أبناء الإسكندرية. بالنسبة للصغار – بعد الإفطار مباشرة، وبالنسبة للكبار بعد صلاة التراويح. يتنقلون في سوق العيد [ يبدأ قبل رمضان، وينتهى بعد العيد ] المراجيح وخيال الظل وصندوق الدنيا والمرأة الكهربائية والساحر والثلاث ورقات وألعاب القوة والنشان، أو يجلسون فى خيام الصوفية، أو فى السرادقات التي ينشد فيها الراوي الشعبي سيرة عنترة والهلالية. يظل ليل بحري مستيقظًا إلى ما بعد صلاة الفجر. حتى الأسر التي تفضل البقاء فى البيوت تسلى سهرها بتناول المكسرات وقزقزة اللب وأبو فروة.
كنا نترك بيوتنا، فى أيدينا الفوانيس الملونة. ليست فوانيس هذه الأيام البلاستيكية بلمبة البطارية الصغيرة، وإنما فوانيس من الصفيح، تتراقص فيها شمعة بحق وحقيق، يرافق تراقصها غناؤنا لما كنا نستمع إليه من أغنيات رمضان، مثل وحوى يا وحوى للمطرب الراحل أحمد عبد القادر، أو رمضان جانا لمحمد عبد المطلب، وغيرها من أغنيات شهر الصوم. فإذا صادفنا دكان، تعالت أصواتنا بالقول: الدكان ده كله عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه. يهبنا صاحب الدكان مليمًا أو مليمين – مبلغ لا بأس به بعملة ذلك الزمان !- ـ فنكرر القول: الدكان ده كله عمار.. وصاحبه ربنا يغنيه. قد يطردنا صاحب الدكان، أو يلعن سنسفيل آبائنا، أو يقذفنا بما فى يده. نهتف ونحن نجرى: الدكان ده كله خراب.. وصاحبه ربنا يعميه.
نزهق من حمل الفوانيس. نكومها فى أى موضع، ثم تبدأ جولتنا فى شوارع بحرى وحواريه، نتعرف إلى مظاهر الاحتفال برمضان.
اجتذبتني الطيبة في ملامح المسحراتي. كنت أستمع إلى دقاته على الطبلة، ودعواته، ومناداته على أبناء الحى بالاسم.
قلت له اسمى، وظللت متيقظًا إلى ما قبل فجر اليوم التالى، أنتظر مناداته اسمى. نطق الاسم بالفعل، وتبينت – حزينًا – أن غالبية أبناء الحي يتقاسمون اسمى: محمد.
أصارحك أن الصورة لم يطرأ عليها تغير ملموس ببدء الإرسال التليفزيوني. ظلت سهرات رمضان – بأبعادها الروحية والترفيهية – على عافيتها وتألقها. ما بدل الصورة – إلى حد كبير – ذلك البناء الخرساني الضخم الذي أقيم في قلب ميدان أبو العباس، نتيجة صفقة – غابت حقيقتها – بين محافظ الإسكندرية السابق وعدد من رجال الأعمال. تحول الميدان إلى مؤسسات تجارية واقتصادية ومطاعم ودكاكين للبازار وشرائط الفيديو والكاسيت. أصبح سوق العيد – المظهر الأهم لسهرات رمضان – مجرد مواضع متناثرة فيما تبقى من الميدان، وتقلصت السرادقات والخيام، وغابت الجلوات التي كانت تنطلق من باب جامع أبو العباس إلى أحياء الإسكندرية الأخرى .
رمضان زمان ذكريات جميلة في وجدان جيل الآباء، وعلى جيل أطفالنا الحالى أن يقنع ببرامج الإذاعة والتليفزيون، وبفوانيس البلاستيك، يحملونها وهم يرددون الأغنية المتوارثة من زمن بعيد: حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو.. فك الكيس وادينا بقشيش.. لنروح ما نجيش.. يا حالو.