تتساقط أوراق شجرة العمر من أغصانها. رحل عن حياتنا الفنان التشكيلي الكبير على دسوقي. شيعت جنازته أمس ( الاثنين )، والعزاء عقب صلاة العشاء اليوم في مسجد الرحمن بالمعادي.
مع تعدد المعارض التي صحبني إليها الفنان والناقد الكبير كمال الجويلي، وتحفيزه لي على القراءة الواعية لإبداعات الفنانين، فإنه كان يطيل تأمل أعمال علي دسوقي. يجد فيها تعبيرًا، ليس عن رؤي الفنان وحده في الحياة المصرية، وإنما عن الوجدان المصري في عمومه، بصرف النظر عن المستوى الثقافي للملقي. لوحات علي دسوقي الزيتية – على سبيل المثال – تأتى إليك من بعيد، عبر الزمان والمكان معًا.. كأنما تتطلع الى مشهد يجتذبك من وراء غلالة شفافة في زرقة سماء ضبابية، وعبر طبقات من الفراغ الممتد الى مرمى البصر.. هذا هو الحس الملموس الذى تراه العين في تلك اللوحات للوهلة الاولى. أما الشعور الهامس المتجه الى الوجدان، فهو ذلك الحلم الشعري الذى يخرج بملامح الصورة وسائر مفرداتها عن نطاق الواقع، ويرتبط بالمخيلة ونسيج الذكريات ومخزونها في أعماق الفنان، وحتى طفولته المبكرة. من هنا تطفو فوق سطح اللوحة تلك الرؤى الشعبية العذبة، يستحضر بها شخوصا عرائسية تتراقص فوق نسيج متناغم شفاف.
في لوحات الفنان على دسوقي الزيتية ملامح متفردة تحمل شاعرية الموال وصوت الأرغول بهمس من يغنى لنفسه.. ليعلو فوق الأحزان بقلب يعشق الحياة والبساطة الكامنة فى الإنسان. أما لوحات الباتيك فترتفع نبرات الألوان وتزهو خلالها.. تعكس خبرة تكنيكية عالية. الهارمونية والتناغم فيها يرتفع صوتهما، ويقترب من السمع والبصر، بمذاق آخر جمالي رائق ومختلف عن مذاق لوحاته الزيتية المبحرة في الهمس والآتية من أفق بعيد.. لونان من التعبير لفنان واحد، تجمعهما عناصر تشكيلية واحدة، وتفرق بينهما طبيعة الخامة، ومنعطف الرؤي.. كعازف يؤدى مقطوعة موسيقية واحدة على آلتين مختلفتين تمامًا، وفى الحالتين نلمس خبرة الفنان المتنامية.
تتعدد أوجه الحياة المصرية بتعدد الإبداعات التي تعني بتصوير مظاهر تلك الحياة. هذا ما يطالعنا في أغنيات سيد دويش، ومنحوتات محمود مختار، ولوحات محمود سعيد، وتماهيها مع إبداعات فناني الفترة نفسها، حتى الزمن الحالي، عبر أجيال اختلفت تياراتها الفنية، لكنها أجادت التعبير – في مجموعها – عن المشهد المصري.
أنت تستطيع التعرف إلى النبع الذي تنهل منه أعمال علي دسوقي: الحارة المصرية تعيش في وجدانه. عاش طفولته في حي الأزهر، في أجواء العمارة الإسلامية، كما عاش روح الأسطورة والحواديت، حيث كان حي الأزهر يزدحم بالذين يعيشون معًا في ارتباط شديد. ولعل ذلك كان هو السبب في تفضيل أحمد أفندي عاكف الإقامة في الحي، بدلًا من حي السكاكيني، فرارًا من غارات الحرب العالمية الثانية. وفى الأحياء الشعبية كان الأطفال أكثر تحررًا، وتربطهم الألعاب الجماعية، وكانت تجذبه رسوم الفنان الشعبي على الجدران في مواسم الحج، والزخارف التي يزين بها الباعة عربات الكشري والبطاطا والفول المدمس، ويلونونها برسوم شعبية جميلة تزخر بأشكال من المربعات والمثلثات والأحجبة بألوان متألقة من الأحمر والأصفر والأزرق، وتحمل الكثير من الموتيفات الشعبية مثل العين والنجمة والهلال والسمكة والكف، وهي الموتيفات التي أصبحت علامات مضافة لأعماله فيما بعد. إلى جانب المرئيات الثابتة، كعربات الكارو ومحلات صناعة الخيامية والعطارة والصاغة والدقاقين والنحاسين والجامع الازهر وسيدنا الحسين. ولا أستطيع إغفال مرسمي بوكالة الغوري منذ عام 1961 بجوار الجامع الازهر، كلما وقفت أرسم أمام الحامل تواجهني من خلال المشربية مئذنته الشامخة التي تقف من حولها الف مئذنة أخرى – رأيي الشخصي أن الألف تحولت إلى آلاف – بالقاهرة العريقة “.
تأثر علي دسوقي كثيرًا بالفن المصري القديم والرسوم الجدارية للمعابد الفرعونية، وكذلك الأيقونات القبطية، إلا أن استفادته الأولى كانت من الحلول التجريدية للفن الإسلامي.
شاهد الحياة الشعبية برؤية خاصة جدًا، استطاع أن يكون ملخصًا للحالة العامة للحياة الشعبية، كاصطلاحات مصورة، هي في الأساس تعبير عن وجدان البشر في تلك المناطق، مثل الرسوم التي نجدها على العربات الخشبية، وكتابات “الله أكبر والحمد لله” فهي ليست مجرد جمل، إنما هي رواسب حية في عقول الأفراد كترديدهم الدائم: الله أكبر ما شاء الله. إنها تجربة تستمر معي، ثم تنقطع إلى أن يأتي مثير ما، ويبعثها مرة أخرى مثل لوحتي” يا رحمن”. شاهدت تلك الكلمة معلقة خلف فنان أمريكى، أقام في المغرب بعد إسلامه، فأعجبتني ومنحتني رغبة في تنفيذها على قطعة نسيج بشكل تلقائي، وكذلك لوحاتي عن رمضان مثل: أهلًا رمضان، ورمضان جانا.
وعلى حد تعبير على دسوقي، فقد عشق كلمة «شعبيات» وشعر بها، كانت بدورها تشعره بنبض الحارة الشعبية، وتلخّصها: تظل الشعبيات مستمرّة، والرؤية متجددة، فيها تصنع الملامح الفنية كافة، ومن معارضه ما سماه «شعبيات» تضمّن مجموعة من اللوحات الفنية تعد نوعًا من التأريخ للمسيرة الشعبية في مصر، فالعادات والتقاليد تندثر، وعلينا أن نحافظ عليها من خلال الفن. كان ذلك قبل عشر سنوات، بعد ذلك أصبحت كلمة «شعبيات» عنوان معارضه الدائم.
على الرغم من أن علي دسوقي عني – متأخرًا – بفن الباتيك، فإن أعماله تحولت إلى معالم مهمة في هذا الفن.
الباتيك هو الرسم على القماش بالشمع الساخن، نشأ في آسيا، وتنقل فنانوه بين عدد محدود من دولها، يُطلق عليه الفن الصعب أو فن الأعمال الشاقة لما يتطلبّه الرسم بالشمع الساخن على القماش القطني من جهد ومعاناة. والأقمشة القطنية وحدها هي ما يستعمل في فن الباتيك، لتفاعلها مع الأصباغ اللونية التي تتميز بمواصفات دقيقة، فالألوان تتلاشى إذا استُخدمت أقمشة صناعية.
كان تقدير على دسوقي لفن الباتيك أنه – ما لم تبذل محاولات جادة لرعايته – لن يستمر طويلًا، فهو صعب، ولا يملك الفنانون الصبر والمقدرة اللذين تحمّلتهما فيه، بالإضافة إلى أنه لا يدرَّس سوى في كلية الفنون التطبيقية، كحرفة وليس كفن. والأمل في وسائل الإعلام أن تؤدي دورًا في التعريف بهذا الفن والعمل على انتشاره واستمراره.
رحم الله فنان الحارة المصرية علي دسوقي.