تأملت قول الصديق الناقد والأستاذ الجامعي عبد المجيد زراقط: أنا عائد من زيارة إلى جامع الحسين، وجامع السيدة زينب. ظننت – لشدة الزحام – أن البيوت خلت من سكانها.
والحق أننا نصنع الظاهرة أحيانًا، نجسد – بأفكارنا وتصرفاتنا- ملامحهاوتفصيلاتها، فلا نتنبه بتوالى إضافة الجزئيات للظاهرة- إلي تكامل صورتها البانورامية، أشبه بما يفعله توالى الأعوام بنا، وإن كنا – في الأعم – لا نتنبه إلي ذلك، إلا إذا تأملنا – مصادفة- ما ران علي ملامحنا، وربما علي تصرفاتنا، من تغيرات، وقلنا في دهش، وربما في أسى: ياه.. كيف حدث ما حدث؟
كنت أتصور حب آل البيت ظاهرة طبيعية في امتداد العالم الإسلامى: أليسوا نسل الرسول العظيم، والحفظة علي تعاليمه ومبادئه وسننه، والمعنيين بالآية الكريمة: ” إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا” ؟
ثم أتيح لي زيارة العديد من الأقطار الإسلامية، فإذا حب آل البيت قضية تشهد أقصى التأييد، وأقصى التحفظ – لا أقول المعارضة، ذلك لأن مبعث التحفظ في الحقيقة، هو المغالاة في حب آل البيت، من قبل بعض طوائف الشيعة، مما تراه بعض المذاهب السنية خروجًا علي تعاليم الإسلام، ونقضًا لمبادئه.. وتباين الآراء بين السنة والشيعة، يصل- أحيانًا- إلي حد التكفير، وإلي حد تشويه الرواد الأول في مسيرة الدين الإسلامى.. ثم توضحت تفصيلات ” القضية”، حين عدت إلي مراجع، أستعين بها في تلمس الأرضية التاريخية لروايتى ” إمام آخر الزمان” ، والتى تنهض علي حادثة اختفاء المهدى – آخر الأئمة الأثنى عشر – وظهوره.
الظاهرة التى تقتصر – أو تكاد- علي الحياة الدينية المصرية، هي التوافق التام بين انتماء الغالبية العظمى من أبناء مصر إلي السنة، وحبهم المتحمس في الوقت ذاته- لآل البيت. وهي ظاهرة – كما قلت- تغيب عن معظم الأقطار الإسلامية، ولعل النقيض هو الواقع الذى تحياه تلك الأقطار: فالشيعة في إيران والبحرين والعراق، وغيرها من الأقطار التى تضم أغلبية شيعية، يضعون إطارا محددًا حول السلالة المحمدية، فلا يتصورون داخله شخصية أخرى، مهما سما قدرها. والسنة- في أقطار أخرى تدين بمذاهب سنية- يأخذون علي الشيعة معايب كثيرة، ويحرّمون الكثير مما يمارسه الشيعة في شعائرهم الدينية. ثمة اجتهادات أخرى – الخوارج مثلًا – ترفض في الشيعة بعض ما تؤمن به, وترفض في السنة بعض ما تؤمن به، وتأخذ طريقًا مغايرة لذلك كله..
ولنناقش ” القضية” تفصيلًا:
ليس شك أنه كان لمصر – منذ البدايات الأولى للفتنة، منذ الخلاف بين علي ومعاوية – موقفها الواضح والمسئول، وتعاطفًا مع آل البيت، ومناصرة لعلي، ثم تأكد ذلك الموقف لما استقبلت- بعد مأساة كربلاء- العديد من آل البيت، أحياء وموتى، وأصبح لهم مساجدهم، والأحياء التى أطلقت عليها أسماؤهم..
فبعد فاجعة كربلاء، عادت السيدة زينب- أخت الإمام الشهيد الحسين ابن علي- إلي المدينة المنورة، ومعها سيدات أهل البيت، والوحيد الذى بقى من صلب الحسين : علي زين العابدين.. لكن الأمويين أشفقوا علي أنفسهم من بقاء السيدة زينب في المدينة، وطالبوها بأن تختار مقامًا آخر – غير المدينة ومكة- حتى لا تظل تحت الرماد شبهة نار. واختارت السيدة زينب – بلا تردد – أن ترحل إلي مصر. وكان السبب البديهى هو العاطفة التى لم تعرف التخاذل أو التردد في حب آل البيت.
أعلن المصريون تعاطفهم ، ومحبتهم لآل البيت، وجاهروا برفض كل المؤامرات التى حيكت ضدهم.
كانت السيدة زينب علي يقين من أن المصريين لابد أن يحسنوا استقبالها، لكنها- مقابلًا للمواكب الهائلة التى أحاطت بها، لما شارفت أرض مصر – راحت تردد في إيمان وغبطة: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
وقد عبر المصريون عن محبتهم الدافقة للسيدة زينب بتسميات عديدة- كأنها أسماء االتدليل التى يتفننون في ابتداعها! – فهي أم هاشم، نسبة إلي جدها هاشم- ونتذكر رواية يحيى حقى الشهيرة! – وهي ” أم العواجز” لأن دارها كانت مقصد الضعفاء والغلابة والمظلومين- ونتذكر قصة قصيرة، جيدة ، ليحيى حقى – وهي ” أم العزائم” ، لأنها كانت ذات عزيمة في طاعة الله وتقواه.وهي رئيسة الديوان، لأنها ترأس الديوان الذى يحضره كبار الأولياء للبحث في شكايات الناس ومظالمهم. وتسميات أخرى كثيرة.. وكانت السيدة زينب هي أول الوافدين من آل البيت إلي مصر. ثم قدم البعض حيًا، وقدم البعض شهيدًا، أو مجرد رأس للإعلان عن مقتله. وظل المصريون علي حبهم المعلن للسلالة الطاهرة، ألم يوص الرسول – قبل رحيله – أبناء أمته بهم خيرًا؟!
وحين قدمت السيدة نفيسة، بنت سيدى حسن الأنور، في الخامس والعشرين من رمضان 193ه، كان المئات من أبناء مصر- رجالًا ونساء- في استقبالها عند العريش بالهوادج والمصاحف المرفوعة والتهليل والتكبير.
عانت السيدة نفيسة – طيلة إقامتها- من المحبين لآل البيت، المتلمسين البركة، والطالبين الشفاعة. كانوا يفدون من المدن والقرى، فلا تكاد تخلو لنفسها لحظة واحدة، حتى اضطرها الإرهاق لأن تفكر في العودة إلي المدينة المنورة، قالت: إني كنت قد اعتزمت البقاء عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر الناس حولى، فشغلونى عن أورادى وجمع زادى، فاضطر الناس – بالتالي- إلي مناشدة الوالى أن يرجو السيدة نفيسة البقاء.
هناك أيضًا سيدى علي زين العابدين – ونتذكر أغنيته الشهيرة! – وسيدى زيد الأبلج، وسيدى محمد الأنور، والسيدة عائشة – ابنة الإمام جعفر الصادق- والسيدة رقية، ابنة الإمام موسى الكاظم.
واحتضن شعب مصر- بكل المحبة والاشفاق والتقدير- رؤوسًا ثلاثة، اجتثت – بالبشاعة والغدر- في أقطار إسلامية أخرى، وعلقت فوق العصى، وفي الميادين، فلم يجد محبو آل البيت سبيلًا لإنهاء تواصل الجريمة إلا ” سرقة” الرؤوس الشريفة، والحفاظ عليها، تعبيرًا عن المحبة الدافقة للرسول وآل البيت، كان الرأس الأولي لزيد بن علي زين العابدين بن الإمام الحسين، وتذهب رواية ثانية إلي أنه قد دفن في ضريح مستقل بمسجد حسن الأنور ، أما الرأس الثانى فقد كان لإبراهيم بن عبد الله ابن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبى طالب، وجدته – لأبيه- السيدة فاطمة النبوية، وقد دفن في ضريح بشارع ماهر في حى المطرية . أما الرأس الثالث، فهو لسيد شباب أهل الجنة: الحسين بن علي ، وقيل – وإن نفى شيخ العروبة أحمد زكي باشا صحة المعلومة – إنه دفن في ضريحه، بمسجده الشهير.
إذا كانت المذاهب الأربعة- الحنفية، الشافعية، المالكية، الحنابلة- هي الزوايا الأربعة للإطار الذى تتحرك في داخله، اجتهادات الغالبية المسلمة من الشعب المصرى، فإن المصريين يضمرون – ويعلنون- حبًا عميقًا لآل البيت: فالأزهر – مسجد السنة – يقع في ميدان الحسين، والسيدة زينب والإمام الحسين والسيدة نفيسة والإمام علي زين العابدين وابنه زيد، وغيرهم ممن أقيمت لهم مساجد ومزارات – ربما علي غير أجداث!- هم مقصد الغلابة والمنكسرين وطالبى الشفاعة والبرء من الأمراض، وذوى الحاجات. وموالدهم مناسبات دينية عظيمة، لا يقتصر الاحتفال بها علي أبناء الحى أو المدينة.. لكن الأفواج تتوافد من أقصى الدلتا، ومن أقصى الصعيد، تبركًا بالمشاركة في المناسبة، ولأن تصورات المحب قد تلغى المعقول فإن للسيدة زينب – علي سبيل المثال- أكثر من ضريح، في أكثر من مدينة مصرية !.