الريادة في حياتنا الثقافية المعاصرة لا تقتصر على جيل طه حسين والعقاد والمازني والزيات وغيرهم من رموز الصحوة التي أعقبت الغزو الاحتلالي البريطاني لمصر. أذكر قول المازني عن أدباء جيله: دورنا هو تمهيد الأرض، ليأتي بعدنا من يبنون العمارات والفيلات.
الريادة – في الأجيال التالية – قوامها أسماء كان لأصحابها فضل الانتقال إلى صفحة جديدة في كراسة التاريخ الثقافي المصري. ذلك ما تستطيع أن نتعرف إليه في دعوة أحمد خيري سعيد نعم للأرفع والأبقي، لا للتقليد والمحاكاة، تلك الدعوة التي التف حولها شباب مبدعي العشرينيات. وثمة تقاسم محمود كامل ومحمود البدوي – في الثلاثينيات – نهرين إبداعيين، تفرعت منهما قنوات، لكل زرعها. وإذا كان عبد الرحمن الشرقاوي وسعد مكاوي قد اعترفا بريادة البدوي في اتجاههما إلى الواقعية، فإن الكثيرين يدينون بالرومانسية المحلقة، والعاطفة المشبوبة أحيانًا، لقصص محمود كامل. وكان صدور ليالي يوسف إدريس الرخيصة – في أوائل الخمسينيات – عن تفرد مكانتها. ذزى شرط القصة الموباسانية من بداية وذروة ولحظة تنوير، ما عني بتدريسه رشاد رشدي في كتابه عن فنية القصة القصيرة.قرأنا القصة المحذوفة البداية، المكثفة العبارات، المفتوحة النهاية، أو المتعددة الدلالات، وكانت قصص إدريس – كما تعرف – انطلاقًا لمحاولات تتجاوز حتى النبع التشيخوفي الذي نهل منه الكاتب. وهو ما يسهل التعرف إليه في سرديات أدباء جيله: يوسف الشاروني وإدوار الخراط وفاروق منيب وبدر نشأت وأحمد نوح وعبد الله الطوخي وصالح مرسي وغيرهم، وصولًا إلى إبداعات ما سمى بجيل الستينيات، محمد حافظ رجب وعبد الحكيم قاسم ومحمد إبراهيم مبروك وجمال الغيطاني ومحمد مستجاب وحسني بدوي وعبد الوهاب الأسواني إلخ.
حتى في البيئات المحدودة تطالعنا أسماء، أدارت – بحذق – دفة القيادة لزورق ركابه من أدباء الإقليم، أو المدينة: الخضري عبد الحميد الذي كون في مدينته الصغيرة ملوي تجمعًا أدبيًا لافتًا: الداخلي طه وبهاء السيد وفريد عبد الكريم وآخرين، وثمة جماعة الرواد بدمياط، التي قدمت جيلًا رائعًا من المبدعين: مصطفى الأسمر، يوسف القط، النبوي سلامة، محمد أبو العلا السلاموني، محسن يونس، حلمي ياسين، أنيس البياع، محمد الزكي، السيد الغواب، طاهر السقا، حسين البلتاجي، وأسماء أخري غيبتها الذكرة. وثمة الأخوان محمد وجمال التلاوي وإسهامهما الوافر في تنشيط الحركة الإبداعية في المنيا، إلى جانب الإسهامالأكاديمي المهم لجامعة الإقليم. ولا أنسي الدور الذي أجاد من خلاله الراحل حسين على محمد وضع مدينته ديرب نجم في الخارطة الأدبية، إلى حد استقطاب مبدعين كبار من خارج المدينة في ملتقيات جماعة ” اصوات معاصرة” وإصداراتها في الإبداعات المصرية والعربية.
والأمثلة كثيرة.
في الإسكندرية جامعة، ومكتبة عالمية، ومحطة إذاعة، وقناة تليفزيونية، والعديد من قصور الثقافة، والتجمعات الثقافية، لكنها – لسبب أو لآخر – تعاني مركزية العاصمة. لماذا لا نحاول استعادة ملامح من مكانتها القديمة؟
ذلك هو السؤال الذي حاول الروائي والقاص والطبيب شريف عادين أن يجد إجابة له في تقديم الإضافة التي تعيد إلى الجسد الثقافي السكندري عافيته، فلا تقتصر على البعد المحلي، بل تتجاوزه إلى البعد القومي الذي يتيحه لها – بالضرورة – ما تضمه المدينة من مواهب خلاقة، ومؤسسات ذات تأثير.
حتى لا تتحول دعوة شريف عابدين إلى هتاف في أفق البحر، فقد حرص أن يكون تحقق حلمه الأدبي بواسطة مثقفي المدينة، يختلفون في توجهاتهم الفردية والجماعية، لكنهم يتفقون في ضرورة إثراء أنشطة الجماعة الوليدة، بحيث يتاح لها تحريك الواقع الثقافي بصورة حقيقية. وتنشيط الكتابة الإبداعية على نحو خاص.
وكما قالت المبادرة في مانفيستو إنشائها، فإنه قد يكون لأي مدينة صفات البيئة الحاضنة والمحفزة للإبداع، لكن فتنة الإسكندرية طاغية، ومظاهر الافتتان بها موثقة، لذلك فإن المبادرة تستهدف التعرف إلى خبرة الريادة الإبداعية في الكتابات الروائية والقصصية، والإفادة من الحصاد الكمي لتنمية الشق النوعي من عملية الكتابة. وهو ما يتحقق بالرؤية العلمية التي تتنبنى المواهب الحقيقية، فضلًا عن الندوات النوعية التي تتناول أركان السرد من حيث الشخصية، المكان، الزمان، الحدث، والورش التكوينية التى تعني بتدريب نماذج سردية للتعبير الفني في الوصف والسرد والحوار والبنية التي تشتق أساسها العلمي من نظرية سيكولوجية الإبداع.
أكوا في الإيطالية هي الماء. أما أكوا في جماعة الإسكندرية فهي الإبداع المحلي الذي يحاول الانطلاق إلى آفاق رحبة، يصبح تكوينًا في بانورامية المشهد الثقافي العربي.
مع تقديري للمعني الكلي في مبادرة أكوا، فإني اجد التحفظ ضرورة في شيطان التفاصيل، أعني الورش الإبداعية التي تعني بتدريس الفنون الأدبية في مجالاتها المختلفة. لم أفهم – على سبيل المثال – معنى الورشة التي تعد المشاركين فيها، أن يبدأوا كتابة الرواية من الصفر!
قد تصح الورشة للمواهب التي تضيف إلى قدراتها بالقراءة الواعية، واكتساب الخبرات، والموازنة، والمقارنة، والملاحظات النقدية. استمرت ندوة المساء ما يقرب من ثلاثين عامًا، ناقشت كتابات تعبر عن مواهب ناضجة، أو تحاول النضج، لكن الذي قصر مشاركته على التلقي، ظل كذلك، فلا بد من الموهبة.