إذا سرت في أحد شوارع جاردن سيتي أو الزمالك أو الدقي أو مصر الجديدة وغيرها من شوارع القاهرة، فقد تطالعك على مداخل بعض البيوت لافتة نحاسية، كتب عليها: هنا عاش فلان، يضاف إلى الاسم طبيعة العمل الذي كان يمارسه صاحبه، وأتاح له المكانة التي حفزت مسئولي جهاز التنسيق الحضاري إلى وضع اللافتة – تخليدًا لذكرى الشخصية – على مدخل البيت الذي ولد فيه، أو أمضى فترة من حياته.
قصدت من عدم الإشارة إلى بيوت الأحياء الشعبية كالدرب الأحمر أو الخليفة أو بولاق، لثقتي أن ترميم البيت أجدى من مجرد وضع لافتة على مدخله. أذكرك بالبيت الذى ولد فيه سيد درويش بكوم الدكة، وأمضي فيه معظم سنوات حياته. تلقف الصمت غير الحكيم مناشدات محبي الفنان العظيم وعارفي فضله في إحداث نقلة حقيقية في موسيقانا العربية، فلما طال الصمت واللامبالاة، جرى للبيت ما يجري على الأشياء حين يغيب الاهتمام والرعاية، سقط من طوله، تهدم، تحول إلى خرابة، فلا موضع للافتة تشير إلى أنه ها هنا عاش العبقري سيد درويش!
الأمر نفسه واجهه بيت عبد الله النديم رقم 13 بشارع عبد الواحد في كفر عشري، الحي الذي أفرد له عبد الحميد السحار روايته” الشارع الجديد” تأكيدًا لدوره في التاريخ المصري المعاصر، وهو الدور الذي أضاف إليه – بالقطع –دور النديم في تطورات الثورة العرابية.
ذات يوم، تجولت – بصحبة صديقي الأستاذ الجامعي الدكتور محمد زكريا عناني – في شوارع بحري. حاولنا تصوير بعض الأمكنة القديمة قبل أن يلحقها الزوال.
لاحظ الرجل ذو السروال الأبيض الواسع، والصديرى المزين بأزرار صغيرة متجاورة، انشغالنا بتصوير الحنفية العمومية في الموازيني.
قال دون أن نسأل: إذا أردتم تصوير بيت بيرم التونسي فهو امامكم.
وأشار إلى بيت ساخ بابه الخشبي في الأرض.
مضينا – بالطبع – ناحية البيت. سألنا الواقفين. قالوا إن البيت المتصدع شهد فترة من حياة بيرم، لكنهم نصحوا بسؤال الأجيال القديمة، عن تلك الفترة الغائبة عن الكثيرين.
صورنا البيت وما حوله، والسؤال الذي يشغلنا: ألا يجدر بالهيئات المسئولة – وزارة الثقافة، محافظة الإسكندرية، هيئة تنشيط السياحة، وغيرها – أن تعني بترميم البيت، ليتحول إلى أثر تاريخي، كما يحدث مع العظماء في كل الدنيا؟
أعلم أن اللافتة جاهزة، بصرف النظر عن الجهة التى أعدتها، لكن معنى اللافتة يغيب عندما يصبح من المستحيل وضعها على مدخل البيت الذي يواجه خطر الانهيار.
الأجدى – كما أشرت – أن تجرى للبيت عملية ترميم ضرورية، وهو ما حدث في بيوت عباقرة العالم في المجالات المختلفة.
أول ما يعني المثقف الزائر لبريطانيا أن يزور بيت شكسبير، ويحرص زائر فرنسا على زيارة بيت زولا أو بلزاك أو فلوبير وغيرهم من رموز الإبداع الفرنسي، الأمر نفسه في روسيا بالنسبة لتولستوي وديستويفسكي وتشيخوف. بل إن المغرب حول البيت الذي أمضي فيه الفرنسي جان جينيه آخر أيامه، إلى مزار سياحي يستقبل الآلاف من زائري البلاد.
لعلي أضيف ما صنعته الجالية اليونانية بالإسكندرية بعدم الاقتصار على وضع لافتة تشير إلى البيت الذي عاش فيه الشاعر اليوناني كفافيس، أعدت الشقة التي كان يسكنها، فصارت مزارًا ثقافيًا، وسياحيًا، مهمًا، يستقبل الآلاف من محبي كفافيس.
لا بأس باللافتة التي تحمل اسم الرمز الثقافي، على مدخل البيت الذي عاش فيه فترة من حياته، لكن السؤال الذي قد يفرض نفسه: ما قيمة اللافتة حين يتحول البيت إلى طلل مندثر؟!
لنا مبادرات سابقة، ومهمة، في هذا المجال، أهمها كرمة ابن هاني – الاسم الذي أطلقه أمير الشعراء على بيته بالجيزة – وبيت طه حسين الذي تحول إلى متحف ومركز ثقافي باسم رامتان، وهي التسمية التي كان طه حسين قد أطلقها على البيت ذي الطابقين. وفي مبادرة غير حكومية، جعلت أسرة عبد الحليم حافظ من شقته في الزمالك مزارًا لمحبيه.
ذلك ما تستطيع مؤسساتنا المسئولة صنعه في الكثير من الأمكنة التاريخية، تتجاوز اللافتة إلى محاولة إعادة الحياة إلى المكان بعد غياب صاحبه، فيمسي مزارًا سياحيًا ثقافيًا.
أشير إلى شقة نجيب محفوظ في العجوزة، فقد هجرتها ابنته أم كلثوم، بعد أن غيب الموت أبويها وشقيقتها، وبيت العقاد في مصر الجديدة الذيي عاني إهمالًا مقصودًا، سعيًا لانهياره!
إذا كانت التكلفة تمثل عقبة من الصعب تجاوزها، فلماذا لا يتحقق الهدف من خلال إسناد المهمة إلى واحدة من مؤسساتنا الثقافية، حكومية أو أهلية أو تابعة للقطاع الخاص، تدرس الجدوى الاقتصادية،ضمانًالنجاح مشروع ثقافي جديد.