حفلت الأعمال الإبداعية – قبل الثالث والعشرين من يوليو 1952 – بالتعرية والإدانة والتنبؤات والتوقعات.
كانت أرض النفاق ويا أمة ضحكت والقاهرة الجديدة وبداية ونهاية وفي الوظيفة ومليم الأكبر والمعذبون في الأرض.. كانت هذه الأعمال وغيرها وثائق فنية ضد فترة ما قبل الثورة، صدرت في العهد نفسه بأحكامه العرفية، وقوانينه المكبلة للحريات، وهي- إلى ذلك – تأكيد بمواكبة الأدب للمسار الثوري.
وكما يقول توفيق الحكيم في مقدمة يا أمة ضحكت ” ما يقوم دليلًا على أن الأدب القصصي قد أدى مهمته على قدر إمكانه، وعلى قدر ما كانت تسمح به الظروف في تصوير العديد من العيوب، وتسجيل الكثير من المشاعر والأفكار التي كانت تشغل الناس في تلك الفترة.
يضيف محمد مندور: ” إن الثورة الفكرية الأدبية التي يدعو إليها شبابنا الناهض، أقدم من الثورة نفسها، بل لعلها هي التي مهدت لتلك الثورة، وضمنت لها النجاح بنشر الوعي بين طبقات الشعب المختلفة، وبخاصة بين الطبقة المستنيرة من الشبان، وتلك هي الطبقة التي تقود الرأي العام المنساق، أي أغلبية الشعب الساحقة”.
ثمة – على سبيل المثال –المعذبون في الأرض الذي نشر طه حسين قصصه – قبل أن يضمها كتاب – فى الفترة من 1946 – 1949 ليعظ – على حد تعبيره – الطغاة والبغاة، ويعزى البائسين واليائسين.
والحق أن اتجاه طه حسين إلى القارئ بالمخاطبة لم يكن وليد ذاته، ولا ابتكارًا غير مسبوق. سبقه إلى ذلك كتاب الواقعية الطبيعية الفرنسية، وفي مقدمتهم بلزاك في قصته “على من يقع اللوم”. الفنان هنا يشغله توضيح بعض الأمور للقارئ، أو يظهر له نوعًا من التحدى، أو السخرية، وهو ما فعله طه حسين. ويقول أستاذنا شكرى عياد: ” ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إن المعذبون في الأرض، هذا الكتاب الذي ينفي عن نفسه بشدة أن يكون مجموعة قصص قصيرة، قد حول اتجاه القصص القصيرة في مصر. لقد فتح الباب على مصراعيه لتصوير الجوانب المظلمة من المجتمع المصري قبل الثورة، فاندفع في هذا الباب جيل كامل من كتاب القصة القصيرة “.
أهدى طه حسين كتابه إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل، وإلى الذين يجدون مالا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون”. شرح طه حسين كلمات الإهداء في المقدمة التي أضافها إلى الكتاب بعد قيام الثورة: ” لا أجد لتصوير الحياة في مصر أثناء الأعوام الأخيرة من العهد الماضى، أدق من هذين الإهدائين اللذين يقرأهما كل من تناول هذا الكتاب، فقد كان المصريون – في تلك الأعوام القريبة البعيدة – فريقين: أحدهما يصور الكثرة الكثيرة البائسة التي تتحرق شوقًا إلى العدل مصبّحة وممسية، وفيما بين ذلك من آناء الليل وأطراف النهار، والآخر يصور القلة القليلة التي تشفق من العدل حين تستقبل ضوء النهار، وتفزع من العدل حين تجنها ظلمة الليل. وكان فريق الكثرة ذاك لا يجد ما ينفق في رزق نفسه، وفي رزق من يعول، فيشقى بما يجد من الحرمان، ويشقى أشد الشقاء، وأعظمه نكرًا، بما يجد عياله من الحرمان”.
الكتاب يتناول وضع الطبقات الأدنى، والظلم الذي تئن تحت وطأته من حكم الإقطاع، فلا يجد أفرادها في النهاية إلا الهروب من الحياة. قيمة أعمال طه حسين الحقيقية – في تقدير ماهر شفيق فريد – ” أنها صور اجتماعية صادقة، تنقل ألوانًا من معاناة الفقراء في صعيد مصر، وتصور ضغوط البيئة على شخوص محاطة بالجهل والتخلف”.
أما صالح فهو – كما يقول طه حسين – ” لم يوجد قط، لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، يوجد في المدن، ويوجد في كل مكان، يملأ مصر نعمة وخيرًا، يشعر الناس بأن مصر بلد البؤس والشقاء، لم يوجد صالح قط لأنه يملأ المملكة المصرية، وإذا أسرف الشىء في الوجود فهو غير موجود”.
أضاف الفنان أن في حياة كل واحد منا – نحن كثرة المصريين – شيئاً من صالح “فصالح صورة البؤس والشقاء والحرمان، وما أقل المصريين الذين لا يصورون بؤسًا ولا شقاء ولا حرمانًا، وليس البؤس قاصرًا على هذه الصفة التى تأتى من الفقر، وما يستتبعه الفقر من الجوع الذي يمزق البطون، والإعدام الذي يمزق الثياب، ويظهر من ثناياه الصدور والظهور والأكتاف، ولكن البؤس قد يتصل بأشياء أخرى ليست جوعًا ولا إعدامًا، ولكنها قد تكون شرًا من الجوع والإعدام، لأنها تتصل بالنفوس والقلوب، وإني لأعرف قومًا كثيرين تمتلئ أيديهم بالمال، ويعظم حظهم من الثراء حتى يضيقوا به، وهم مع ذلك يجدون بؤسًا أي بؤس، وشقاء أي شقاء، ويتخذون زهرات الحقول، أو هذا الزهر الذي تصنفه أيدى الحسان تصنيفًا في الحواضر والمدن وسيلة إلى ثراء يصيبونه عند من يكونون أقل منهم غنى، وأضيق منهم ثراء”. أما أمين” فموجود من غير شك، لأننا نراه، ولا نرى غيره، لأنه عظيم الخطر، فهو هذا الصبي الذى ينام جائعًا إذا أقبل الليل، لأن من حقه أن يتناول الطعام في إبانه، وأن يأخذ بقسطه من النوم حتى لا تتعرض صحته الغالية لبعض ما يؤذيها، موجود من غير شك لأنه لا يملأ القرى ولا يملأ المدن، وإنما هو شخص ممتاز، يمكن أن يحصى أمثاله وأترابه إحصاء دقيقًا في كل قرية، وفي كل مدينة، وهو من أجل ذلك موجود لأن عدده محدود”.
لقد انتهت حياة حسنين كامل على بطل رواية نجيب محفوظ “بداية ونهاية“بشبهة الانتحار – هل انتحر بالفعل؟ – لكن بعد أن مضي فى رحلة الصعود إلى غايتها، أما صالح وخديجة وغيرهما من المعذبين في الأرض، فقد ظلوا على سلبيتهم في تقبل الحياة برضا واستكانة، وكان التعبير الإيجابى الوحيد – إن جازت التسمية – هو لجوؤهم إلى الانتحار، والانتحار – فى حقيقته – هروب من الحياة.
وعلى الرغم من أن الكتاب لم يكن فيه – على حد تعبير طه حسين – ما يستحق المصادرة، فليس فيه سياسة ” أو شئ يشبه السياسة، وليس في الكتاب تحريض على النظام الاجتماعي ينكره القانون، وليس من فصوله فصل إلا وقد نشر فى مجلة أو صحيفة سيارة، فلم تنكره الحكومة، ولم تضق به النيابة، ولم يقدم كاتبه وناشره إلى القضاء.. على الرغم من تلك ” الحقيقة ” التى أكدها طه حسين في مقدمة الكتاب بعد قيام الثورة، فإن الكتاب ينبض – فى الأقل – بالتحريض على النظام الاجتماعى، وإلا فماذا تعنى هذه العبارات: ” مصر هى بلد البؤس والشقاء “.
وتقديرًا من الصحفيين لطه حسين، فقد أزمعوا أن يختاروه نقيبًا لهم، لكن الملك رفض. فلما عين طه حسين وزيرًا للمعارف، قال له فى حفل أداء اليمين، أمام الوزراء جميعًا: أنا أعرف الكلام الذي كتبته عن المعذبين في الأرض، فاترك مثل هذا الكلام، ولا تعد إليه مرة أخرى، ثم قال له إنه يعطيه هذه الفرصة للاختبار!ـ وقد رد طه حسين على قول أحد شهود محكمة الثورة أنه – طه حسين – قبل يد الملك فاروق، بأن الله يشهد ما قبل يد فاروق، ولا يد أبيه، ولا يد عمه السلطان حسين، ولا يد عمه عباس حلمى الثاني حين كان أميرًا لمصر، ولا يد ملك من الملوك الذين التقاهم ” والله يشهد أنني ما قمت بتقبيل يد أحد من الناس إلا أن تكون يد أبوي، أو يد بعض شيوخنا في الأزهر رحمهم الله، لا أستثني يد سيدة أجنبية كانت ترفع يدها إذا لقيتني في بعض المحافل، فتلصقها بشفتي إلصاقًا، واضحك من ذلك إن شئت، واعبث به إن أحببت، فليس عليك في الضحك والعبث جناح “.