في الأول من أغسطس 1991 رحل عن عالمنا يوسف إدريس. مناسبة لتقييم دور الفنان في السرد الفني بعامة، والقصة القصيرة بخاصة. وهو تقييم ينبغي أن ينسب إدريس إلى عصره، وإلى الفترة التاريخية التي عبرت عنها إبداعاته.
تغيظني الآراء التي تناقش قصص يوسف إدريس بعيدًا عن إسهامها الريادي في القصة العربية القصيرة. وهي آراء تمتد فتشمل معطيات نجيب محفوظ الروائية. تتناسى أن القيمة الحقيقية للإبداع تصدر عن الفترة التاريخية التي ينتسب إليها. من الخطأ، بل هو تعسف، أن نناقش إبداعات زولا وبلزاك وديكنز وفلوبير وديستويفسكي في ضوء اتجاهات نقدية حديثة. إنها إضافات مهمة، تعبر عن المراحل الفنية المتتالية لتلك الإبداعات. ولو أن نجيب محفوظ قصر علاقته بأدب المنفلوطي على البكاء بعد قراءته – والتعبير لمحفوظ – فالغالب أنه كان سيطالعنا بكتابات تلامس عصر المنفلوطي!
من هنا، يجب أن تتحدد نظرتنا إلى النقلة التي أحدثها يوسف إدريس في القصة القصيرة العربية. أشير إلى رأي ب، م، كربوشيك أن يوسف إدريس هو – بحق – الوريث الشرعى للمدرسة الحديثة، حمل نفس خصائصها المعرفية والفنية، ودافع عنها من خلال إبداعاته ومساجلاته الفكرية، حتى تأثره بعمالقة الأدب الروس: تشيخوف وجوركى وديستويفسكى، إنما هو سير فى الطريق التى ارتادها مبدعو المدرسة الحديثة، وإن كان تشيخوف هوأقرب الجميع إلى عالمه. وفى تقديمه لمجموعة جمهورية فرحات، أشار طه حسين إلى ما تتمسم به مجموعة أرخص ليالى من تعمق للحياة، وفقع لدقائقها، وتسجيل صارم لما يحدث فيها”.
يوسف إدريس موجة هائلة، تلتها موجات متتابعة من كتاب القصة. ولعله يجدر الإشارة إلى أن معظم قصص أرخص ليالى [1954 ] المجموعة الأولى ليوسف إدريس، قد نشرت في الصحف والدوريات قبيل قيام الثورة، وتعد بداية مرحلية للقصة العربية الحديثة، من الصعب تبين عمقها لو أننا اكتفينا بمجرد الشخصيات التى كانت نبضًا لليالى إدريس الرخيصة. إن الخصائص التى اتسمت بها قصص الثلاثينيات والأربعينيات موجودة فى قصص إدريس. الشخصيات والأحداث لا تختلف ـ فى ظاهرها ـ عن الشخصيات والأحداث التى تطالعنا فى أرخص ليالى، لكن الفنية المغايرة والأمانى والتطلعات والأحلام والثورة والإصرار وغيرها من المشاعر، كانت نبضاً لقصص إدريس.
إنها أقرب إلى القصائد الشعرية التي تتغنى بحب الفنان لكل ما هو مصري، والمشكلة الاجتماعية – تحديدًا – هي الخيوط التي نسج منها إدريس أحداث قصصه، والمحتوى الذي تشتمل عليه يصدر عن الإحساس العميق بهذه المشكلة. إن التعاطف مع الفئات الكادحة، وليس الغضب على الفئات المستغلة، هو نبض قصص إدريس، لكنك تغادر القصة وقد امتلأت بالسخط الذى لا حد له على الأوضاع السلبية فى المجتمع، اللمحات الواعية التى تنبض بأدق التفاصيل تغني عن المباشرة، ففى قصة نظرة– مثلًا- يشاهد الراوى خادمة صغيرة تحمل صينية بطاطس، وتريد أن تعبر الطريق، اهتزت الصينية على رأس الصبيةـ وأسرع الراوى إلى إنقاذها دون أن يعبأ حتى بالعربة التي كادت تدهمه، لكن الخادمة كانت قد عدلت من وضع الصينية فوق رأسها، ووقفت – فى ثبات – تتفرج على أولاد يلعبون الكرة، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون” ولم تلحظنى، ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها. وقبل أن تنحرف استدارت على مهل، واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة، ثم ابتلعتها الحارة “. ضمن الفنان قصته كل الدلالات التي أراد أن يعبر عنها، بداية من الصورة الموحية للخادمة الصغيرة، إلى سحق أحلام الصبية في التمتع بطفولتها مثل كل الأطفال.
الفنان لا يقول لنا ذلك مباشرة، ولا يحمّل القصة من التفاصيل بما يضفى عليها تقريرية. الفنان فى كتابات إدريس عمومًا، لا يضغط على دور الفن القيادى، ليس ثمة صرخة رومانتيكية، أو نهاية سعيدة، يفرضها الفنان على القصة، وعلى القارئ بالتالي، والذى كان – باعتبار مصريته – يسير في رحلة الكفاح السلبي التي وصلت – داخل القدر المكتوم بالقهر – إلى درجة الغليان. اكتفى الفنان بأن حدد أبعاد لوحته جيدًا، وعنى تمامًا بكل الظلال والإيحاءات، ثم وضع ريشته مدركًا أن الشعور السلبي للقارئ سيولد شعورًا إيجابيًا يقاضي الظلم والفساد. ثمة حيادية اكتفت بأن ترسم إسكتشًا سريعًا لموقف ما، يحفل بالجزئيات الصغيرة والمنمنمات، فيرتفع بها إلى الكليات التي تحدد المشكلة دون أن تطلب حلًا، إنما هي تثير فيوجدان المتلقى ما يدفعه إلى التفكير، وإلى التعاطف مع هذه الشخصيات من الطبقات الأدنى.
إنها تختلف عن حيادية نجيب محفوظ – على سبيل المثال – التى تبين – في الدرجة الأولى ـ عن إدانة للاستعمار الذى كان من نتائجه المباشرة تفسخ المجتمع في داخله. أما حيادية إدريس فهي تعكس تعاطفًا مع الفئات الكادحة، وتعري الأرستقراطية والبورجوازية الكبيرة من كل ما يسترون به أنفسهم من زيف وطلاء، لكنها ترسم الموقف كما هو، دون إقحام من الفنان، ودون أن يحدد لنفسه موقفًا فكريًا، أو سياسيًا، جهيرًا، يعبر عنه إبداعه. تبدو تلك الحيادية – مثلًا – في الحشاش الذي يأتى به الضابط إلى الطبيب ليثبت أنه ابتلع المخدرات، ويدور بين الطبيب والضابط حوار ينتبهان – من خلاله – إلى أن اليوم هو موعد سهرة أم كلثوم، فيلبى أحدهما دعوة الآخر إلى قعدة مزاج.
ثمة من يصف يوسف إدريس بأنه ليس أول من كتب عن الفلاحين في بلادنا، وليس أول من كتب عن القرية، لكن قيمته الحقيقية هي أنه عندما كتب عن القرية قلب تربتها، وعرف باطنها قبل ظاهرها، فخرجت فى أدب قرية مصرية، له سماته وملامحه.
يوسف إدريس يضغط على المشكلات الأساسية فى حياة الفلاح – والمواطن المصرى البسيط – مثل العلاقة بين المدينة والقرية، والحاجة إلى الطعام، وإلى تحقيق رغبات المرء الجنسية والوجدانية، والكراهية للسلطة، والخوف من الموت، إلخ. ثمة المدرس الذى يجد آمال نفسه التي تبددت، في شاب من طلبته أصبح طبيبًا، وأبو إسماعين الذى يستطيع – بمفرده – أن يزيح ظل الهجانة الثقيل، بعيدًا عن أبناء قريته، والإعرابي الذى يراهن على التهام مائة ثمرة تين شوكى دفعة واحدة ” ومشى فى الطريق ، وبدايات المغص تلوى أحشاءه، كل ما يهمه أنه تغذى وأسكت عنه – ولو هنيهة – مسامير الجوع، وليكن بعد ذلك ما يكون”، وعبد القادر طه الذي استشهد بأيدي رجال الملك لأنه أعلن احتجاجه على فساد الوضع، والبرعي الذى أمسك بسماعة التليفون لأول مرة فى حياته، وداعبته أمنية نفذها على الفور، طلب المركز، وقال بحرقة: يلعن.. يلعن أبوك يا مركز!، وشبراوي الذي كانت القاهرة في مخيلته شيئًا جميلًا وخطيرًا، فيه عذوبة الحواديت وروعة الأساطير ورهبة المجهول. حتى الأسطر الأولى من قصة ألبرتو مورافيا الطفل يفيد منها الفنان – ولعله لم يقرأها – فى قصة أرخص ليالى، هؤلاء الذين يعانون غياب الكهرباء، وانعدام أية وسيلة للتسلية، فيلجأون إلى الجنس باعتباره أرخص الليالى:” عندما جاءت السيدة الفاضلة من جمعية رعاية الطفل لزيارتنا كما تزور غيرنا، سألتنا: لماذا ننجب أطفالًا كثيرين إلى العالم، فما كان من زوجتي التي كانت في ضيق في ذلك اليوم، إلا أن قالت لها الحقيقة البسيطة: لو كانت لدينا المقدرة، لذهبنا إلى السينما في المساء. ولكن هذا هو الحال، فلأننا لا نجد المال، نذهب إلى السرير، وهكذا يولد الأطفال “.
ثمة نماذج تناقض فى مشاعرها وتكوينها النفسى، معظم الشخصيات التي قدمتها القصة القصيرة قبل أرخص ليالى، لكن إدريس -كما يقول يورى ناجيبين – لا يلجأ أبدًا إلى زخرفة أبطاله من الفلاحين والعمال والسائقين والميكانيكين وصغار الموظفين وغيرهم من ممثلى الشعب العامل.. وهو يصورهم كما هم فى واقع الحياة، بكل ما فيهم من فضائل ونقائص.. ولكن قلمه يتأجج بالكره والازدراء للنماذج الطفيلية من البيروقراطيين والمستغلين والوصوليين”.
أما المقومات، أو الخصائص، الفنية، فقد كتب طه حسين عن يوسف إدريس بأنه يملك من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء، ما ينعكس فى مجموعته الأولى “ أرخص ليالى “ التى نشر غالبيتها قبل قيام ثورة 1952.
ولعل النقلة المرحلية التي أحدثها يوسف إدريس في القصة القصيرة العربية، تشبه تلك النقلة المرحلية التى أحدثها تشيخوف فى القصة القصيرة الروسية، وفى العالم، إنها نقلة أقرب إلى الانقلاب الإبداعي الذى غيّر من مذاق وتكنيك القصة القصيرة.
يا سادة.. ضعوا إبداع كل فنان في زمانه!
***