بقلم/ د. ناهد الطحان
ربما تبعد المسافات ولا تتلاقي الأعين والأجساد ..ويظل – رغم ذلك – ذلك البريق الاخاذ الذي يأخذ بالالباب ليعيد الذكري ويعري أسباب الهشاشة والألم ..
شارع جانبي يظل المهرب من انكسار الروح وقسوة الواقع ..ربما كمتاهة لا تنتهي تسرق جروح النفس بلا جدوي ..
بدأت القصة بذروة الصراع النفسي داخل الطبيب والسرد لتصف قمة الألم والسعادة معا وكأنها بتلك المشاعر المزدوجة تستحضر الماضي بمرارته والحاضر في أمله ..رغبة في توقيف اللحظة وديمومتها حتي لا تسرق كما سرقت في الماضي الذي نعلم بعد ذلك أنه مر عليه خمس سنوات ..ليستدرجنا السرد لفلاش باك يصنع نوستالجيا مشتركة لعلاقتهما دون كشف تفاصيلها.. ويجرد المشاعر الإنسانية مع نفي للماضي تماما الا من مشهد درامي رئيسي كان معبرا تعبيرا قويا عن علاقة مجهضة اجهاضا قسريا دون ذنب لكليهما ..
لهذا فإن استدعاء الماضي عمد إلي استدعاء مشاعر وآلام لا تنتهي بانتهاء السرد وانما تمتد لتكشف ثقل الحاضر علي قلب المحب وانعكاس الصدمة بعد معرفته حقيقة مرض حبيبته وهو الطبيب ..مما يتصاعد معه في كريشندو انفعالي توتره.. ذلك التوتر الذي بدأ منذ الكلمة الأولي في السرد ( جاهد ) والتي شكلت وصفا دراميا لحالة الشوق والألم معا .ليظل السرد يتأرجح بين هاتين الحالتين ويشدنا الي عالم مخيف و جانبي أيضا ..
فكما أن الحبيبة اتخذت لنفسها طريقا جانبيا وكأنه ملاذ وهروب من حالة الضياع العاطفي التي تشعر بها ..كذلك اتخذ الطبيب المحب طريقا جانبيا لحياته فيسافر ثم يعود ثم يتزوج وينجب ..
هذا الهروب الجانبي لدي كل منهما شكل مسارا مشابها لكنه يختلف في نهايته لدي كليهما ..
فالحبيبة تعاني المرض العضال والمصير المؤلم بعد خمس سنوات من الانفصال العاطفي ..وهو مصير مأساوي يعلمه الحبيب / الطبيب ويخفيه اشفاقا عليها كما صرح الراوي العليم من خلال السرد ..
والمرض هنا هو ما دفعها لاستحضار الماضي كمحرك للمشاعر ومبرر لاتصالها بحبيبها بعد كل تلك السنوات.. اذ يمثل لها الطبيب / الحبيب الذي تسبب لها في جروح الماضي املا في علاج نفسها وقلبها من مرضها الحاضر .. لتصنع ثنائية الالم /الماضي و الالم / الحاضر عاملا مشتركا بين الزمنين مع اختلاف طبيعة الالم .. وهو تشبيه موفق من قبل القاص فالالم الجسدي معادل مادي للألم النفسي ونتيجة سببية له..و في الحالتين يكشف السرد عن معادلة موضوعية أخري بين عجز الطبيب عجزا اقتصاديا – كما سنري لاحقا – تسبب في خذلها في الماضي وبين عجزه الطبي أمام استحالة العلاج والنجاة في الحاضر..
ورغم اختلاف مصير الحبيبين فإن السرد ينبيء عن بداية جديدة متمثلة في الطفولة / الأمل التي حملت نفس اسم الحبيبة كما جاء في السرد في إشارة لامتداد الحب حتي مع انتهاء الأحبة ..رغم ذلك فقد غيم الضيق واليأس علي الحبيب / الطبيب بعد أن أدرك حالتها الصحية ..فيعاني معاناة مضاعفة كي يخفي ارتعاشة صوته وتأزم نفسه من خلال الهاتف .. وهو المشهد الدرامي الثاني في أهميته و الذي نجح القاص الطبيب حاتم رضوان أن يعبر عنه بحرفية شديدة ومرجعية شخصية أيضا لأنه بالتأكيد يصادف حالات مماثلة مما يجعل من السرد محاكاة فنية لواقع متأزم ويعطيه تأثيرا أقوي من خلال وصف دقيق لردة فعله الداخلي والتي انعكست علي حركته وارتعاشاته وتوتره الداخلي والخارجي كتصوير درامي معبر عن المسموع والمرئي معا .
ومن خلال السرد نجد أن الراوي لم يقدم مبررا منطقيا صريحا لتخاذل الطبيب منذ خمس سنوات وهجره حبيبته وكان بيده أن يختصها لنفسه ويفوز بها وهو ماعبرت عنه الحبيبة..بالتصريح حينا و بالصمت القاسي حينا آخر في لقائهما الأخير من خلال تحريك الخاتم في اصبعها ليدلل ذلك علي عدم الاستقرار النفسي ورفضها للواقع المفروض عليها . . وهي دلالة مزدوجة لأنها تحمل في طياتها انكسارا للحبيب الطبيب الشاب لعدم قدرته علي تحمل تكاليف الخطبة والزواج .لكنه ابدا لم يصرح لنا بذلك..وربما ترك الراوي هذه المساحة الفارغة التي يمكن استنتاجها ضمنيا عبر الثقافة الجمعية التي لا تخطيء التأويل ..وهو أيضا ما يؤكده سفر الطبيب بعدها وهو إن كان معادلا للهروب النفسي أو نفي الذات وعقابها اللاواعي لذلك التخاذل والتخلي عن حبيبته ..فإن هذا السفر يعبر عن حالة عامة لدي الشباب تتطلبها الظروف الاقتصادية ..مما يجعل من ذلك مبررا كان يجب علي الراوي التأكيد عليه بشكل يتواءم مع الحالة الرومانسية عن طريق الايحاء دون تعكير صفو السرد الحزين ..ولكنه آثر التعبير البصري الذي يحفز خبرة القاريء في مجتمعاتنا ..
وتنتهي القصة باستدعائه لمشهد حبيبته وهي تهش الفراشة الليلية الرقيقة والتي تتميز باللون الرمادي كما نعلم ..لتكشف عن غموض وضبابية وقتامة المستقبل .. وتنزوي في شارع جانبي في دلالة أخري علي تعرية هشاشة هذا الحب وإقصائه من حياتها بعد أن خذلها .. وفي إشارة لاستمرار العجز وإن اختلفت صوره …
القصة حالة إنسانية نفسية و اجتماعية شائكة عبر غلالة رومانسية وهي تيمة الحب المستحيل ..لتحمل وجعا محموما يعاني منه شبابنا ويكشف عن صراع ممتد في الزمان والمكان ..
لكن القاص بأسلوبه التجريبي الواضح والذي يعتمد علي تشريح الموقف ومعاناة النفس مع تأثير هذه المعاناة علي صفحة روحة وقسوة الماضي التي شكلت عجزا نفسيا وماديا للطرفين جعل منها سردا متجددا .. عبر أسلوب خاص وواع وسياق وصفي يضعنا ومنذ اللحظة الأولي في مواجهة مع الصراع النفسي والاجتماعي للشخصيات .. ليحيلنا القاص الطبيب حاتم رضوان كعادته إلي انكسار للروح والجسد معا .. ومن الخاص الي العام ومن الداخل الي الخارج ومن المعنوي إلي المادي.. ويسلط الضوء عليها كقضية عامة وأرق مجتمعي في عالمنا المعاصر.