أعجبني التعبير: المثقف من حمل الحقيقة في وجه القوة. وللأسف، فإن نظرة بعض المثقفين إلى المبدع أنه لا يعنى بغير الإبداع، فلا شأن له بقضايا المجتمع ولا السياسة. حتى الرياضة لا يتصورون أنها تعنيه فى شيء. إنه يؤثر الحياة فى جزيرة صنعها لنفسه، يكتفى فيها بقراءة ما يتصل بإبداعه، أو ينصرف إلى تأملات فى فضاء هذا الإبداع، أو ينشغل بالكتابة الإبداعية.. هذا هو عالمه المحدد، والمحدود، أشبه بسياج البيت فى أيام طه حسين الذى كان يتصوره نهاية العالم.
هذه – بالتأكيد – نظرة خاطئة، فالمبدع له اهتمامات كل المثقفين، فضلًا عن هؤلاء الذين قد تعنيهم قضايا الثقافة، وإنما انشغالهم بواقع حياتهم وظروفهم المعيشية. ربما يجاوزونها إلى اهتمامات ثقافية أو ترويحية، مثل التردد على المسارح ودور السينما، أو متابعة برامج التليفزيون، أو مجرد الجلوس على المقاهى.
يتابع المبدع – على سبيل المثال – مناقشة حول مباراة فى كرة القدم، يحاول المشاركة برأى، لكن الدهشة المستغربة تواجهه: مالك وكرة القدم؟!
الأقسى عندما يبدى المبدع رأيه فى قضايا السياسة. تعلو الملاحظة المشفقة: السياسة بحر قد لا تحسن العوم فيه.
والحق أن المبدع هو أشد الناس التصاقًا بقضايا مجتمعه، وقضايا الإنسانية بعامة. إنه يملك من المعرفة والوعى ما يتيح له النظرة الشاملة، الرؤية التى تناقش، وتحلل، وتتفق، وتختلف. وعلى حد تعبير تاركوفسكي: ليس للحياة قيمة إلًا إذا وجدنا فيها شيئًا نناضل من أجله.
أشير إلى قول الإفريقية نجوجي داثيونجو إن أي أديب إفريقي مبدع لا يتصدى في أدبه للقضايا السياسية والاجتماعية المطروحة في إفريقيا في وقتنا الراهن، هو أديب هامشي، غارق في التفاهة، متجاهل لما يجري حوله، مثله في هذا مثل الرجل في الحكاية الشعبية الذي ترك النيران تلتهم بيته، لأنه كان مشغولًا بمطاردة جرذ حاول الهرب من النيران المشتعلة.
العبث والتمرد هما قوام فلسفة ألبير كامي. تمرد الإنسان ضد العبث، محاولة تجاوز اللاجدوى. إن رفع سيزيف الحجر إلى قمة الجبل، وإعادة المحاولة بعد أن يتدحرج الحجر تظل عبثية، وبلا هدف، ما لم يضع الإنسان هدفًا، يسعي إلى تحقيقه. عندئذ يصبح للحياة معنى. المقاوم’ سيريف – رغم المعاناة – لم يستسلم. الإنسان كذلك يجب ألًا يستسلم. ثمة العديد من عوامل الإحباط واليأس، على الإنسان أن يرفضها، يتجاوزها، حتى لو متنا فلإننا نموت دون أن نستسلم، دون أن نرضخ لمشيئة آلهة سيزيف التي أرغمته على لعبة الصخرة المتدحرجة من فوق الجبل. إذا كانت النتيجة واضحة، وحتمية، فإن علينا أن نقاومها، إما بالانتحار، وهو مرفوض، أو بالتمرد الذي ينتزع قيمة الحياة. وكما يقول الراوي في ” الغثيان” لسارتر: للحياة معنى إذا أراد المرء أن يكون لها معنى.
ولعلي – بالمناسبة – أتحفظ على قول كامي، إنه جعل فكره وقلمه في خدمة القيم التي لا تصح بدونها الحياة، ويصبح الإنسان فيها غير جدير بالإحترام. إذا كان ذلك كذلك، فلماذا كانت معاداته للشعب الجزائري عندما ثر لاستقلال بلاده.
لم أكن أتابع برامج التليفزيون. أنشغل فى القراءة، وأجد فى مواده – التى نادرًا ما أتابعها – باعثاً للونس, والونس – إن كنت لا تعلم – يعنى الرفقة والصداقة والحميمية. ثم اجتذبنى الفيلم. المقدمة التى بدأ بها، دفعتنى إلى ترك ما بيدى، ومشاهدته.
أصارحك بأنى أرفض مشاهدة أفلام الغرب الأمريكى. عدا استثناءات قليلة, فإنها تمجد الرجل الأبيض، هو يمثل المدنية والتقدم والسلام، بينما الهندى الأحمر يمثل الهمجية والتخلف وغريزة القتل. بداية الفيلم أشارت إلى أحداث حقيقية توضح الوسائل التى اتبعها الاستعمار الأوروبى حتى يفرض وجوده فى أرض الهنود الحمر.. فهو – لأكثر من سبب – يستدعى المتابعة.
الفيلم – اسمه “ كسر الأغلال ” – يتحدث عن مقاومة الهنود الحمر للغزو الذى هدد الأرض والحرية، وهدد الحياة نفسها. كان أول ما حرص عليه الذكاء الأوروبى هو النفاذ فى وحدة قبائل الهنود، وتفتيتها. استمال الفرنسيون بعض القبائل، واستمال الإنجليز قبائل أخرى، وسقط الكثير من جنود الفرنسيين والإنجليز فى معارك السيطرة على الأرض الجديدة، وسقط الكثير من الهنود الحمر في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، كما يقول المثل.. وكان المنطقى أن يتجهوا بأسلحتهم ضد الغزو إطلاقًا. انشغلت الخطوة التالية بتصفية الوجود الهندى، والتخلص من أصحاب الأرض، بممارسة الوقيعة بين القبائل الموحدة، وتأليب كل قبيلة على الأخرى.. واكتفى الأوروبيون بالفرجة على معارك قبائل الهنود، حتى استنفدت قوى أبناء الوطن الواحد. لم يعد إلاّ ست قبائل حرصت على الوحدة, فهى لا تخضع لمحاولات للفرقة، وتجد فى الرجل الأبيض مستعمرًا يجب محاربته. لجأ المستعمر إلى سلاح جديد، فقد أعطى الذهب مقابلًا للأرض، ثقة بأنه سيمتلك الذهب والأرض معاً، بعد أن يندثر الهندى الأحمر!. وعادت معارك قبائل الهنود, غذاها المستعمر بالمؤامرات والفتن والأسلحة, وارتدى فى ذلك كله قناع رجل السلام، الذى يسعى لمصالحة المتعاركين، ويعقد الاتفاقات التى تفرض الأمن والاستقرار. ثم قدمت النهاية التى أجاد الرجل الأبيض نسج خيوطها، فواجه الهنود الأحمر حقيقة أنهم فقدوا الأرض، فهى لم تعد ملكًا لهم، وفقدوا حق الحياة فوقها.. وصارحتهم هندية عجوز بالقول: لم تحسنوا الحفاظ على أرضكم . استبدلتم بها الذهب والمغريات التافهة حتى ضاعت الأرض والحياة. ونتذكر مقولة الأم العجوز لآخر ملوك العرب فى الأندلس: لا تبك كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال!.. وترك بقايا الهنود الحمر أنفسهم لمن يقودهم إلى أرض أخرى، يقضون فيها آخر أيامهم!..
مع أن نهاية الفيلم تذكرنا بانتصار المستعمر الأوروبي، بل ولأنها انتهت بانتصار الرجل الأبيض على الهندي الأحمر، فإني تمنيت أن يعمم عرض الفيلم على تجمعاتنا: الجامعات والمدارس والأندية. يشاهده كل المواطنين العرب، يتعرفون – في أحداثه – إلى المخطط الذي يشاركون – بإرادتهم أو برغمهم – في تنفيذه. كل ما واجهه الهنود الحمر حتى وجدت القبيلة المتبقية نفسها منفية عن بلادها، يواجهه وطننا العربي منذ مطالع القرن الماضى، كأنه سيناريو يعاد تصويره، نشارك فيه بالفرجة.