صدر حديثًا عن «دار بتانة» كتاب «تجليات السير الشعبية في المسرح العربي» للدكتور عبدالكريم الحجراوي الذي يكشف فيه عن استراتيجيات استلهام المسرح العربي للسير الشعبية للتعبير عن الأزمات الكبرى التي مر بها في الفترة 1967: 2011 باعتبارهما تاريخين فارقين في بنية الوعي العربي بما شهده خلالهما من أحداث جسام من انقسامات وحروب أدت إلى خلق مفاهيم ورؤى جديدة على المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية والاقتصادية.
ويقع الكتاب 664 صفحة ويضم ثمانية فصول يرصد فيها كيف عَبَّرَ المبدع العربي مسرحيًّا عن الصدمات التي مر بها من خلال السير الشعبية باستخدامها كخطاب مضمر وقناع يعبر به عما يجيش في نفسه أفكار سياسية واجتماعية تسعى السلطة إلى كبتها ومنعها. موظفًا إياها بما يخدم رؤيته تجاه ما يجري على أرض الواقع من أحداث.ومعتمدًا عليها وسيلة للتحريض والتثوير ضد الواقع الاجتماعي العربي المهزوم.
وداخل هذه الحقبة الزمنية تمت عملية الاختيار بين مسرحيات وصل عددها إلى أكثر من 135 مسرحية من أصل 237 مسرحية قد رصدها الكتاب منذ نشأة المسرح العربي 1847م وحتى 2021م متنوعة بين البلدان العربية المختلفة «مصر، وفلسطين، وسوريا، ولبنان، والأردن، واليمن، والعراق، والسعودية، والكويت، والجزائر، وتونس، والمغرب، وليبيا، والإمارات، وعمان، وقطر، والبحرين».
وترجع أهمية الكتاب في أنه يبحث في رافد شعبي مهم من روافد المسرح العربي، نهض عليه واتخذه ركيزة يعبر بها عن هويته، فالسير بالإضافة إلى الحكايات الشعبية وقصص ألف ليلة وليلة وغيرها من الموروثات عملت على خلق اتجاه عربي خاص في المسرح، وقد تناولت الكثير من الدراسات المسرحية في الوطن العربي تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح، وكذلك الحكايات الشعبية؛ لكن لم تفرد دراسة موسعة من قبل تحمل على عاتقها التأصيل لدور السير الشعبية في المسرح العربي في البلدان العربية ككل، وكيف أثْرَتْ تلك السيرالحركة المسرحية العربية، وشكلت مصدرًا مهمًا من مصادر الإبداع المسرحي العربي، الذي سعى في سبعينيات القرن المنصرم وما تلته من عقود للعمل على خلق اتجاه مسرحي عربي يتكئ على الموروث الشعبي.
وأوضح المؤلف الدور الذي لعبه المحيط الجغرافي في اهتمام الدول العربية بسيرة دون أخرى في الاعتماد عليها على خشبات المسرح، فكتاب بلاد الشام «لبنان، سوريا، فلسطين، الأردن» كانوا أكثر اهتمامًا بسيرة «الزير سالم» من أي سيرة أخرى، خاصة الكتاب اللبنانيين ويرجع سبب اهتمامهم بهذه السيرة أن أحداثها تدور في بلاد الشام. وبرز اهتمام كتاب تونس بالسيرة الهلالية خاصة شخصية «الجازية» لأن الكثير من أحداث السيرة الأصلية تدور في تونس، وانصب تركيز كُتَّاب اليمن على سيرة سيف بن ذي يزن بسبب الأصول التاريخية اليمنية لبطل السيرة.
وبين الكتاب أن سيرة عنترة بن شداد كانت أكثر السير العربية استلهامًا تلتها السيرة الهلالية ثم الزير سالم وسيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس وبصورة أقل علي الزيبق وحمزة البهلوان وفيروز شاه والأميرة ذات الهمة.
ولفت الكتاب إلى أن كتاب المسرح العربي قد اعتمدوا على استدعاء أبطال السير الشعبية كي يستنجدوا بهم ضد الواقع الاجتماعي الفعلي المثبط المعاش متكئين عليهم للتحريض والثورة ضد هذا الواقع المهزوم.
وكشف الكتاب أنه عقب الأحداث الجلل التي مر بها الوطن العربي كثر استلهام أبطال السير الشعبية العربية مسرحيًا لكن برؤى جديدة تتناسب مع الواقع الجديد، فعقب نكسة 1967م استلهمت السير الشعبية كثيرًا في المسرح المصري والعربي، فبدأ هذا النهج مع ألفريد فرج الذي استلهم سيرة الزير سالم عقب النكسة مباشرة، ثم أحمد علي باكثير في العام التالي في مسرحيته «حرب البسوس» 1968م، ومحمد أبو العلا السلاموني في مسرحيته «أبو زيد في بلدنا» 1969م وللمسرح الإذاعي في العام نفسه قدم فاروق خورشيد «حبظلم بظاظا» من سيرة علي الزيبق، وفي المغرب ومن واقع الهزيمة العربية المريرة استلهم الكاتب المسرحي «عبدالكريم برشيد» في مسرحيته «عنترة في المرايا المكسرة» 1971م، وفي سوريا جاء صدى السيرة والهزيمة في مغامرة رأس المملوك جابر 1971م، لسعدالله ونوسحيث سيرة الظاهر بيبرس.
وذكر الحجراوي أن استلهام كتاب المسرح للسير الشعبية في الستينيات وبالتحديد من 1967م: 1969م خمس مرات، وفي حقبة السبعينيات سبعة عشر مرة، وفي الثمانينيات اثنتين وثلاثين مرة، وفي عقد التسعينيات ثمانيًا وثلاثين مرة، وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرينثمانيًا وثلاثينمرة. وفي 2011م خمس مرات. ومن 2012م: 2020م ثماني وأربعين مرة ، أي إنه من عام 2010م: 2020م تجاوزت النصوص المتحولة عن السير الخمسين نصًا مسرحيًا وهي أعلي نسبة لعقد من العقود بثلاث وخمسين مسرحية، ففي عام الثورات العربية 2011م تحولت السير الشعبية خمس مرات، وفي عام 2014م وحده ثماني مرات. مما يكشف أن ثورات الربيع العربي لعبت دورًا بارزًا في توجيه كتاب المسرح نحو السير الشعبية كما هو الحال في الفترة التي تلت نكسة 1967م.
وأضاف الحجراوي أن اختيار المؤلفين المسرحيين لأبطال السيرة التي يختارونها لنصوصهم لم يكن عشوائيًا، فحين أراد محمد إبراهيم أبو سنة أن يدافع عن الهوية العربية اختار الشخصية التي أبدعها الوجدان الشعبي خصيصًا من أجل القيام بهذه المهمة وهو حمزة العرب، وحين أراد «ألفريد فرج»أن يعبر عن حالة تشظي الهوية العربية اختار سيرة الزير سالم التي يتقاتل فيها العرب مع بعضهم البعض وكذلك «يسري الجندي» حين سعى للتعبير عن الهوية المصرية، اختار بطل السيرة الوحيدة التي بطلها مصري والمعروف بعلي الزيبق المصري من أجل التعبير عن الهوية المصرية.
وأشار إلى الحجراوي إلى أن المسرحيات المتحولة عن السير الشعبية ركزت بشكل مباشر على قضية الانعزال بين الهوية الحاكمة في الدول العربية والهوية الاجتماعية الشعبية، كما عالجت مشكلات أخرى مرتبطة بصور مختلفة من الهوية مثل الهوية الجندرية والهوية العرقية والدينية، وكذلك الهوية اللغوية.
وأوضح أن المسرحيات المستلهمة من السير الشعبية التي اختارت اللغة العربية الفصحى لحوارات شخوصها – كانت ذات بعد قومي عربي.بينما المسرحيات التي استخدمت العامية كان اهتمامها بالشأن الداخلي لبلدان هؤلاء الكتاب ومن بعدها يأتي البعد العربي العام. كما أناستخدام اللغة الدارجة كان لأهداف تثقيفية وتوعوية، كما أن اللهجات المحلية التي حضرت في بعض النصوص لم تأت بصورة اعتباطية وإنما لأسباب متعلقة بهوية ومجتمع كلامي معين، ودلالة على الوطن.
د. عبدالكريم الحجراوي: ناقد وكاتب مصري، من مؤلفاته في النقد المسرحي: «المسرحية الشعرية العامية في مصر 1921: 1986» «معجم المسرح السيري: ببليوجرافيا شارحة». «صدمة التوحش: تمظهرات الهويات القاتلة في المسرح العربي» «الهوية: رؤية مأساوية للعالم». ومن مؤلفاته الإبداعية: مجموعتان قصصيتان «كان لك معايا». و«نسوة ينتعلن الكوتشي». مسرحيتان «الحسين يقتل مرتين» و«ليلة عرس فاطمة»، وثلاث روايات «ما قبل الرحيل»، «هند»، «حبكة هشة ليوم عادي». ديوان شعر بعنوان «لم يكن عدلًا».وله العديد من المقالات النقدية والأبحاث العلمية المحكمة في الصحف والمجلات المصرية والعربية الكبرى. كما أن حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه Ph.D في النقد المسرحي من جامعة القاهرة.