ثمة مبدأ يهمنى: أن أكون حيث يجب أن أكون، أو على حد التعبير المتوارث: أنت حيث تضع نفسك.
يقول كازنتزاكس فى روايته ” الإخوة الأعداء”: نحن لا نموت إذا كان لنا هدف نريد بلوغه، ويقول: أنا أحمل فكرة عظيمة، بحيث لا يمكن أن أموت، وهو ما يبقينى حيًا.
تعبر صفاء عبد المنعم عن هذا المعنى في يومياتها كمديرة مدرسة: ” هناك شيء ما بداخلي، يدفعني لعمل عظيم، لا أعرفه، ولم أحدد ملامحه بدقة، لكنه هاجس يراودني منذ الصغر، أن أكون إنسانة تفعل موقفًا إيجابيًا، يشغلني دائمًا هذا الهاجس، وهو ترك الدنيا بوضع بصمة قوية ومختلفة” ( يوميات مديرة مدرسة – 102 ).
أمنية الكثير من الأدباء أن تصبح الكتابة هوايتهم وحرفتهم، لا يتقيدون ببيروقراطية الوظيفة. وكان العقاد موضع حسد كتاب جيله، لأنه قصر حياته على العيش في داخل مكتبته الهائلة، في البيت رقم 13 بشارع السلطان سليم، أو بين الإصدارات العالمية الحديثة في مكتبة الأنجلو المصرية بشارع عماد الدين.
وعلى الرغم من أن نجيب محفوظ ظل – حتى الإحالة إلى المعاش – موظفًا متميزًا، يراعي وظيفته، ويعطيها كل ما تحتاج إليه من جهد ووقت، فإنه ظل يتعجل – في حوارات كثيرة – موعد الإحالة إلى المعاش، ليفرغ لحياته الحقيقية، للإبداع.
الكتابة هي عمل القلة من أدباء آخرين. مبعث قلتهم أن الكتابة لا تؤكل عيشًا، بما يخالف معطياتها المادية في كل الدنيا.
فاجأني أستاذنا محمود تيمور في جلستي إليه بجروبي عدلي: أخشى أن أكون في تصوركم خالي شغل!
وهز رأسه بالنفي: أنا مسئول عن زراعات، أرعاها بنفسي، وإن لم يكن منها المانجو التيمور، فهي مجرد تسمية!
أدرك تيمور نظرة المصريين إلى الكتابة الأدبية، وأنها تظل مجرد هواية، يمارسها الكاتب على هامش عمله الوظيفي.
بالنسبة لي، فإن العمل الصحفي هو مجرد عمل، وظيفة، تتيح لي العيش في المستوى المقبول، لا تشغلني عنه هامشيات من أي نوع، أعطيه حقه، وأعطي نفسي حق القراءة والتأمل والكتابة.
أذكر أني كتبت خاطرة ساخرة عن الكتابة الأدبية التي أتاحت لأرنست همنجواي شراء طائرة خاصة، والتنقل بين العديد من دول العالم، يشاهد، يلتقي نماذج من البشر، يصادق حكامًا ومحكومين، يخوض تجارب في الحي اللاتيني بالعاصمة الفرنسية، وفي الحرب الأهلية الأسبانية، وأدغال إفريقيا، وسواحل كوبا.
الحياة لا تقتصر – أو هذا هو المفروض – ما بين الميلاد والموت، على الأكل والشرب والنوم والجنس والإنجاب. المعنى الحقيقي للحياة أن يترك فيها المرء – قبل أن يغادرها – أثرًا. الزرداشتية تقول إن العمل هو ملح الحياة. يتقدم الإنسان فى العمر، ويموت، لكن ما يخلفه من تأثيرات إيجابية لا يموت. وكان جابرييل ماركيث يحفز نفسه على العمل بالقول: أنا إذا توقفت فسأموت!
نحن نحيل إلى القضاء والقدر ما فى نفوسنا من ميل إلى التقاعس والتواكل، وانعدام الإقبال على المعرفة، والسكوت عن الأخطاء، والفشل فيما نهمل صنعه.
كانت أزمة راوي قصتي القصيرة” خارج الحدود” أن يشغل حيزًا في أي مكان، مكانًا بحجمه يقف فيه. لا يعانى الإبعاد، ولا التهميش. يرفض الحياة فى الظل، يلبى أوامر من يقفون ويتحركون فى الشمس، له طموحات ترسم مستقبلًا ورديًا.
وكما يقول أراجون فإن كل إنسان – مهما ادعى العزوف أو التواضع – يحتفظ فى قرارة نفسه برغبة دفينة، وهى أن يبقى منه شيء يحيا من بعده، ويترك أثرًا منه، وما أكثر الذين ينقشون أسماءهم على الأشجار والأحجار. إن مأساتى لا تختلف عن مأساتهم.
في تبقيعاتي النثرية “مد الموج” سألنى جاد افندى ـ مدرسي في البوصيرى الأولية، قبل أن يعتذر عن عدم تكوين أول فريق لتنس الطاولة:
– لماذا لا تنضم إلى الفريق؟
قلت:
– ألعب للتسلية، ولا أتوقع إحراز بطولات.
– ولا أنا.. الفريق يحتاج إلى ستة أولاد.. انضم إليه خمسة فقط.
– إنهم يجيدون اللعب.
رسم ابتسامة متوددة:
– كل ما أطلبه منك أن ترتدى زى الفريق ، وتصحبنا فى مبارياتنا.
حقق الفريق بطولات،ـ ونال كأس مدارس الإسكندرية.
تسلمت الميدالية الصغيرة . ووقفت مع أفراد الفريق أتابع – بالشرود – كلمات الناظر المهنئة. كنت أفتقد الإحساس بالمشاركة.
يغيظنى من يقبل الحياة محلك سر، لا طموح ولا إرادة، يعتز بأن يكون تابعًا لمتبوع، عاملًا لدى صاحب عمل، مرءوسًا لرئيس. تلك هى حياته, منذ بدأ حياته العملية حتى خروجه إلى المعاش، وقضاء بقية أيامه فى انتظار المجهول، لا يعترض على تفاوت طبقى، ولا مكانة اجتماعية متدنية.
أذكر – بالمناسبة – قول ياكوبولو أورتيس في رسائله: ” كم مرة خجلت فيها من أن أموت مجهولًا بين الناس في زمني. كنت أحتضن آلامي في الوقت الذي كانت تتملكني فيه الرغبة والإرادة للتخلص منها، لو لم يمنعني خوفي السخيف من أن يدفن اسمي بالحجر نفسه الذي سيوضع فوق جسدي”. بل إن أرتيس يعترف – ببساطة – أنه كثيرًا ما كان ينظر إلى المآسي التي تعانيها بلاده – إيطاليا – بسعادة، تصورًا أن إرادته وجرأته ستتيحان له تحرير وطنه.
عدا الجند، فإنى أرفض من يقنعون بارتداء اليونيفورم، من يتحولون إلى طوابير، إلى أرقام.
*