الحضارة هى الانقلاب الحاسم فى مسار الحياة البشرية.
والحضارة ليست مجموعة ملفقة من المكتشفات، لكنها نهر خصب متدفق له رافدان: الزراعة وإطالة العمر.. ومنهما نشأت الأديان والحكومات والملكية والأسرة والقضاء وعلوم الهندسة والكيمياء والطب. وكانت الأصل فى صناعات الفخار والبناء والنجارة ونسج الأقمشة والتعدين وغيرها.
إذا أرجعنا رأى سلامة موسى بأن مصر أصل الحضارة إلى حماسة الكاتب، فمن المؤكد – فى الأقل – أن مصر قد أسهمت، بصورة مباشرة، فى صنع الحضارة البشرية الأولى.
الأمثلة نجدها في كل الكتب التي عرضت للحضارة المصرية القديمة.. كل الكتب بلا استثناء.
قال هيرودوت يومًا: مصر هبة النيل. وذلك صحيح إلى حد بعيد.. لكن مصر هبة أبنائها أيضًا. وبتعبير آخر، فقد شكلت الطبيعة أرض مصر، ثم شكّل الإنسان من الأرض شيئاً له ذاتيته، وأهميته.
مصر هى الأراضى الواقعة على ضفتى النيل.. لكن المصريين – مع ذلك – هم الذين خلقوا مصر، ذلك لأن النيل بعض الطبيعة، وهبات الطبيعة تحتاج إلى تدخل الإنسان، وإلاّ أصبحت دمارًا. وقد واجه المصريون الأوائل تحدى الطبيعة، بعد نهاية عصر الجليد. تحول المناخ فى جزء من إفريقيا وآسيا نحو الجفاف، ولم ينتقل أقوام من مكانهم، فابتلعهم الجفاف تمامًا، وغير أقوام من أسلوب حياتهم، تحولوا من صيادين إلى رعاة رحل. ورحل أقوام نحو الشمال، ونحو الجنوب، بينما واجه آخرون تحدى الجفاف، بتغيير الموطن، وتغيير طرائق المعيشة فى آن معًا. هبطوا إلى مستنقعات الوادى، فحولوا مستنقعات القاع إلى حقول، تجرى فيها القنوات والجسور. وكان ذلك العمل الإدارى، هو الذى خلق مصر.
إن دراسة التاريخ المصرى هى دراسة للتاريخ البشرى كله. فالحضارة المصرية القديمة هي التى أخرجت الإنسان من العصر الحجرى إلى عصر الزراعة، وحولته من قنّاص للطعام إلى منتج له، ومن فرد في مجتمع بدائي لايعرف الاستقرار إلى فرد في مجتمع متطور، مستقر، يعرف البيت والأسرة والحكومة، ويشده إلى مجتمعه الأكبر عاملا النظام والوحدة.
تقول الأسطورة الإغريقية: لما جاء أوزوريس إلى مملكته، وجد المصريين يعيشون حياة كتلك التى يعيشها الدواب، فراح يعلمهم فنون الزراعة، ويسنّ لهم القوانين، ويعلمهم عادة الآلهة. ثم خرج بعد ذلك إلى كل أنحاء العالم، بنشر المدنية.
الأسطورة تعبير عن واقع مادى، عاشته البشرية فى فجر تاريخها. وكان الإنسان المصرى أوزوريسهو الذى نشر الحضارة والمدنية فى العالم كله. وكانت مصر أصل الحضارة، كما تؤكد الحقيقة، لاكما تزعم الأسطورة. ولعلى أستعير من سلامة موسى قوله إن الفراعنة ليسوا آباءنا فقط لكنهم آباء العالم أيضًا.
أما السؤال: لماذا اقتصر تقديم المدنية الأولى على المصريين وحدهم، فالجواب يتحدد في الطبيعة المصرية: فيضان النيل كل عام، فى مواعيد محددة، يدفع الإنسان إلى تعلم أصول الزراعة.. الماء ضرورى للنبات، ومادام الماء وفيرًا، ويأتى فى أوقات لايغيب عنها، فإن الإكثار من الزراعة بالجذور والبذور، هو السبيل الأفضل. أن ينتج الطعام بالزراعة، بدلاً من السعى لجمعه من الغابات.
وكانت الخطوة التالية أن يقيم الإنسان، الفلاح، إلى جانب النهر، مصدر المياه التي تكفل له ري زراعته، فهو يبنى مسكنًا يأويه وأسرته، ويعرف الاستقرار وحياة الجماعة. ثم واجه شح الطبيعة إلى حد الجدب، وإسرافها إلى حد الدمار. وظهرت الحكومة في صورة “شيخ “ يفصل في المنازعات، ويسدى المشورة والرأي، بداية مؤكدة لفن الإدارة. وفرض الشعور بالاتحاد نفسه، وأصبحت الوحدات المستقلة أقسامًا إدارية، تخضع لسلطة مركزية، تشرف وتوجه. ثم نمت الخبرات في الزراعة: المجال الوحيد الذي صنع الإنسان من خلاله حياته الجديدة.. فظهر المهندس الذي يدير الماء بالحياض، وينظم الري، ويحفر القنوات، والفلكي الذي ينظم التقويم بما يتفق مع مواعيد الزراعة، فهو يقسم السنة الشمسية إلى 12 عشر شهرًا، واليوم إلى 24 ساعة، واخترع المزولة، والساعة المائية، لتقسيم ساعات الليل، وساعات النهار ، ثم عرف المصريون الدفن والتحنيط ، وعرفوا التخصص فى فروع الطب المختلفة، ونجحوا فى إجراء بعض الجراحات الدقيقة فى الأسنان، وعرفوا الإيمان بالرب المعبود. وعندما قام إخناتون بدعوته إلى الإله الواحد ” آتون ” كانت تلك أول دعوة في تاريخ البشرية تقرب من التوحيد، الذي جاءت به – فيما بعد – الكتب السماوية.
كان ذلك كله محصلة المدنية الأولى.
المصري لم يبدأ من فراغ. ثمة أسس ودعامات، أقام فوقها ماضيه وحاضره. لم تكن ثمة حضارات أخرى سابقة – كما فيالأمريكتين مثلًا- فقد استقر في الوادي، الذي كان بركاً ومستنقعات، ثم بدأ ينسج خيوط استقرار حياته، وتواصلها. اكتشف النار، وصناعة آنية الفخار، والنسيج، والزراعة، وتحدى الفيضان والوحوش والطبيعة، وأقام المبانى. وعرف الأسرة والعائلة والقبيلة والقرية والمدينة والعاصمة، وعرف ” الحكومة ” بأسلوب لا يختلف كثيرًا عن الحكم الذي نعرفه الآن. وعرف الدين فى أشكال بسيطة، تعرف إليها في الطبيعة. ولأن الشمس كانت معبودًا قديمًاً للمصريين، الإله رع ، فإن المصريين يقسمون بالشمس حتى الآن في معاملاتهم اليومية: وحياة الشمس الحرة ، وحياة اللى تشوفني ولا اشوفهاش، وحياة البهية لما تطلع من جبلها. وعندما تسقط أسنان الطفل، فإنه يلقى بالسن في الناحية التي تشرق فيها الشمس ويقول: يا شمس يا شموسة.. خدى سن الحمار وهاتي سن العروسة. أما البنت فتقول : خدى سن الجاموسة وهاتي سن العروسة!
ثم تطورت فكرة الدين – من خلال العقيدة الإخناتونية إلى عبادة الرب الواحد. الحضارة المصرية أشبه ببناء توافرت له الدعامات القوية في البداية، ثم أقيمت الطوابق في أناة ودأب. وكما يقول هيرودوت فإن ” المصريين الذين يحيون في مناخ متفرد على ضفاف نهر له سمات مختلفة عن الأنهار الأخرى، قد تبنوا أيضًا- وفى كل الأشياء – عادات وتقاليد مخالفة للناس أجمعين “.
التجانس الطبيعي هو الصفة الأولى في البيئة المصرية: في البيئة الزراعية التي تعد – على طولها – إقليمًا زراعيًا واحدًا، وفى الثوابت الحضارية التي صنعها الإنسان. القرية المصرية – مثلًا- تكاد تكون نسخة واحدة لا تتغير على امتداد الوادي، فيما عدا استثناءات قليلة فى البيئة الساحلية والبحيرية، وقرى النوبة ذات الطبيعة الخاصة، والمدينة المصرية الريفية – البندر – أيضًا – إنها تبدو متشابهة، بحيث لا تكاد تنفرد مدينة ما في شخصيتها عن بقية المدن، ثم التجانس البشري الذي لا تعنيه الأصول الجنسية الأولى لسكان مصر فى عصور ما قبل التاريخ ، بقدر ما تعنيه الحقيقتان الأساسيتان اللتان تعلوان فوق كل الاجتهادات: إن المصريين القدماء شعب أصيل في مصر، ولم يفدوا إليها من مكان آخر، وأن احتمالات الاختلاط قلت مع، ومنذ، بداية عهد الأسرات. والملاحظ أن الوحدة الجنسية للشعب المصري تبدأ منذ فجر التاريخ برقم متفوق، ما بين 10 إلى 12 مليون نسمة، عاشوا على ضفتى الوادي ، تجمعهم صفات متشابهة، إن لم تكن متطابقة.
تذهب بعض الاجتهادات إلى أن تاريخ مصر – فى طريقة كتابته – مازال شذريًا مقطعًا، لا ترى في فصوله أكثر من التتابع التاريخي، هي فصول لا تكاد تجمعها صلة، أشبه بمجموعة قصص لأكثر من مؤلف. وحقيقة التاريخ المصرى أنه قصة واحدة طويلة، تدور حوادثها حول أشخاص عديدين من جنسيات ولغات وعقائد مختلفة، لكن بطلها واحد، هو الشعب المصري.
المصري من أول العصر الحجري الوسيط، يتجه اتجاهًا حضاريًا مميزًا تختص به مصر، تطور الحضارة المصرية منذ العصر الحجري الوسيط استقل بوسائله نتيجة لعزلة مصر، الجزيرة الخضراء، أو الخط الطويل الزمردي وسط أقيانوس من الصحارى، وبحرين من المياه الزرقاء، وجبال إلى الشرق، وهضاب إلى الغرب، وذلك بعد ما أصاب المنطقة من تغير فى مناخها. وكانت من قبل متصلة بالشمال الإفريقي كله، تشبه في طبيعتها أعالي السودان كما هي حالًا. انعزلت عن جيرانها، وإن بقي لها عن طريق النيل، اتصال ببلاد النوبة وما فوق أرض النوبة “.
من هنا، يمكن تفسير تلك المدارس المختلفة – عقب ثورة 1919 – التي نادى بعضها بالفرعونية، ونادى بعضها الآخر بالثقافة الغربية، ونادى البعض الثالث بالتضامن العربي- لم تكن القومية كدعوة قد تأكدت فى مصر بعد – إن الهدف الذى كانت تسعى إليه كل تلك الدعوات هو بعث الشخصية المصرية.
إذا لم تكن هذه الشخصية قد أفرزت من المحصلات الحضارية ما يؤثر تأثيرًا مباشرًا على الأم التي اتصلت بها، فإنها – في الأقل – ” عملت عمل الخمائر في العالم القديم والحديث، بما قدمت من أمثولة على ما يبلغه جهد الإنسان العقلي والاجتماعي. وهي حضارة يمكن أن تجد فيها العناصر التى تثير عجبك وإعجابك، من أية زاوية نظرت إليها، وأية ناحية طرقت دراستها”.
والحق ان المراحل التاريخية المهمة التى عاشتها – أو اجتازتها – الشخصية المصرية، بدءًا بالعهد الفرعونى، فالمسيحى، فالعربى الإسلامى، وحتى الآن، تشكل – فى النهاية – ملامح ثابتة، هي التي تتسم بها الشخصية المصرية المعاصرة. ذوت ملامح، وأضيفت ملامح أخرى، وتمت تحولات من المتغير إلى الثابت.
إن الروح السلامية التي تحرص على نسج خيوط الحضارة مما يسهل قراءته في مسار التاريخ المصرى، وظاهرة احتواء الغزاة وإذابتهم فى كيان المجتمع، خاصية مصرية أخرى، تتوضح في ذوبان عشرات الجاليات الأجنبية التي وفدت غازية، فما لبثت أن تمصرت، ثم أصبحت – بفعل الاحتواء والإذابة – مصرية تمامًا.
الظاهرة الأوضح فى التاريخ المصرى هو تواصله واستمراره. الثبات والتغير. حتى الملامح البسيطة التياعتدناها في حياتنا اليومية إنما هي استمرار أو أصداء لما كان يحدث في التاريخ القديم.
على سبيل المثال، فإن عروسة البرقع التي كانت المرأة في الأحياء الشعبية تضعها على أنفها، هي تطوير لقطعة الصدف التي كانت تعلقها المرأة في عصر ما قبل التاريخ كي تصرف انتباه الآخرين، فلا ينالوها بحسد. وعادة وضع القلم خلف الأذن التي طالما طالعتنا في الأعمال الأدبية – وفي الحياة المعاشة بالطبع – لكتبة وكمسارية وصرافين ومحضرين وغيرهم، إنما هي عادة فرعونية. نقوش جدران مقابر الجيزة من عصر الدولة القديمة، وطيبة من عصر الدولة الحديثة، تبين عن الكاتب المصري القديم وقد وضع القلم خلف أذنه بعد أن ينتهي من تدوين ما كتب.
الشخصية المصرية شخصية واحدة تاريخيًا، رغم تتابع المراحل التاريخية من فرعونية وإغريقية وعربية وغيرها. ثمة أطر أساسية تقوم عليها الشخصية المصرية، بهت بعضها، وتوضح بعضها الآخر، لكن العناصر نفسها – باهتة أو واضحة – لا تزول. وهي تكتسب مقوماتها من الإيمان بالله الواحد، وبالآخرة، والثواب والعقاب، ومن توحيد إخناتون، وقسم أبقراط ، وبسالة مار جرجس، وبناء الأهرام، ومعابد الكرنك، ومدينة هابو، وإدفو، ومقابر سقارة، ووادى الملوك، وفتوحات رمسيس، ونصائح نفر روهووإيبو وير، وأسطورة إيزيس وأوزوريس، ومراكب الشمس، والكاتب الجالس القرفصاء، ورحلة المسيح والعذراء، وتاريخ ابن عبد الحكم والسيوطي والمقريزي وابن إياس والجبرتي والرافعي، وصحوة عبد الناصر، ومكتبة الإسكندرية، والزجاج، والذهب، والفضة، وأول أساس علمى للكيمياء والطب، والتقويم الشمسى، وعلم الهندسة، وحساب المثلثات، والكتابة، وصناعة الورق.
اللحظات تتواصل بلا انتهاء. ربما تتوازى، وربما تتداخل، وقد يرين عليها ظلام، وقد يسطع فيها ضياء، لكنها تظل – في كل الأحوال – لحظات، أو قل: لحظة عريضة عميقة ممتدة، تبدأ بفجر حضارة الإنسان.