أيا يكن رأيك السياسي فى عقد الستينيات، فلعلك تتفق معي أنه لم يكن مجرد عقد نكسة لعين – والوصف للباحث الراحل عبد العزيز الدسوقي – وإنما كان فترة ازدهار لافت في مجالات الثقافة. قرأنا إبداعات سردية لنجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف الشاروني وإدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم، وصدر لعبد الحميد السحار موسوعته الرائعة” محمد رسول الله والذين معه”، وحركت ركود الحياة الفكرية وجهات نظر زكي نجيب محمود وزكريا إبراهيم وفؤاد زكريا، وطالعنا مصطفى محمود باجتهاداته الدينية، وقدم المسرح أهم المعطيات من خلال أعمال توفيق الحكيم ونعمان عاشور وعلى أحمد باكثير ومحمود دياب وألفريد فرج وميخائيل رومان وسعد الدين وهبة ورشاد رشدي وغيرهم، بالإضافة إلى عروض من المسرح العالمي لبيكيت ويونسكو وبريخت وبيتر فايس، وشاهدنا معطيات عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور الرائعة في المسرح الشعري. ونشطت حركة الفن التشكيلي بصورة ملحوظة، فرسانها تحية حليم وجاذبية سري وعمر النجدي وحامد ندا وغيرهم، أجادوا التقاط الإبداع المصري القديم، وتواصله في أعمال محمود مختار وأحمد صبري ومحمود سعيد ومحمد ناجي، ولا ننسى حفلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفايزة أحمد، وصحبنا يحيى حقي إلى الكونسير، وأمتعتنا موسيقا السيمفوني لأبي بكر خيرت، وفرق رضا والفنون الشعبية ومسرح العرائس، بل إن الملاحظات التي تلامس مسرح التليفزيون يصعب أن تتغافل عن الصحوة الرائعة في المسرح المصري، على مستوياته المختلفة من تأليف وإخراج وأداء تمثيلي، وحتى الآن فإن المسرحيات التي أنتجها التليفزيون آنذاك تمثل زادًا حقيقيًا لقناة ” ماسبيرو زمان”.
من الملامح المهمة لتلك الفترة الخصبة ظاهرة” الماستر”، التي صدرت من خلالها إبداعات كثيرة لشباب طالعين ومتحققين. حتى من غابت عنهم مشكلات النشر مثل جمال الغيطاني ومحمود بقشيش وحسين على محمد وعبد الله السيد شرف، وجدوا في الماستر وسيلة مهمة لنشر نسخ أولى من إبداعاتهم، استهدافًا للإفادة من الآراء النقدية، أشبه بالقراءة في ورشة أدبية، يوزع فيها النص على الحضور، يناقشونه، كل وفق رؤيته النقدية.
حدثتك عن تأكيد المستشرق السوفييتي – قبل تفكك بلاده – إبراهيموف أن الكاتب يتقاضى أعلى المكافآت، تفوق رواتب العاملين في الدولة على المستويين الحكومي والخاص. ذكرني بالرفض الغاضب، والمهذب، للعظيم يحيى حقي لنشر أعماله الكاملة في هيئة الكتاب لقاء سبعمائة جنيه. كانت حجة الدكتور محمود الشنيطي رئيس الهيئة آنذاك أن اللوائح تحكم تصرفاتها المادية.
بالطبع، فإنه نتيجة لتغير الظروف الاقتصادية، زادت مكافآت المتعاملين مع الهيئة، لكنها ظلت في الحد الأدنى للمكافآت، وللأجور عمومًا.
إذا تصورنا النسبة بين العاملين في الحقل الواحد، فإن مقابل” الكلمة” هو الأدنى، في الأغنية والنص الدرامي وكل ما يقوم على الكلمة. رضي المبدعون بظلم المكافآت القليلة.
لأن قاعة المبدعين اتسعت، فالبديهي أن تتسع قاعدة النشر، لكن عمليات النشر اقتصرت – بصورة أساسية – على هيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة ودوريات المؤسسات الصحفية، بالإضافة إلى إسهامات جانبية للمجلس الأعلى للثقافة، ودار الكتب والوثائق القومية، وأكاديمية الفنون، والمركز القومي للترجمة.
على استحياء، نشأت ظاهرة جديدة لم تكن موجودة في عملية النشر، وهي أن يدفع الكاتب مقابلًا لما ينشره، وليس العكس. استعادة غير صحية لطباعة الماستر، التي كانت تستهدف آراء جماعة الورشة الضيقة، قبل أن تدور بها المطابع. ثم تكاثرت دور النشر الخاصة، أقلها يقصر مكافأته للكاتب على عدد محدد من النسخ، دون مقابل مادي، وغالبيتها يتقاضى مقابلًا للنشر، أي أن المبدع يدفع تكاليف طباعة كتابه.
هذه الوسيلة الجديدة للنشر أغرت من لا صلة لهم بالكتابة ولا النشر ولا الحياة الثقافية، لنقل ظاهرة بئر السلم إلى عملية النشر. ثمة عقود بأعداد مقبولة من الكتاب المطبوع، دون أن يشار إلى المقابل المادي الذي يدفعه الكاتب من لحمه الحي!
في غياب الرقابة والمساءلة ( تحياتي إلى اتحاد الكتاب واتحاد الناشرين! ) زادت الظاهرة اتساعًا. لأن الكثير من دور النشر الخاصة بلا مقر، فقد عانت مشكلة افتقاد المخزن الذي تودع فيه مطبوعاتها. وبدا اختصار أعداد نسخ الكتاب ضرورة، فتقلصت إلى ما لا يزيد عن عشرات النسخ. يتقاضى الناشر – على سبيل المثال – قيمة طباعة ألف نسخة ( رحم الله الآلاف العشرة من النسخ التي كانت تصدر كل عام من أعمال الحكيم ومحفوظ وإدريس وعبد القدوس والسباعي) يحددها بالأرقام، وفي باله تناسي الأمر.
حين يعود بالكتاب إلى فترة الماستر التي لم تكن – كما أشرت – سوى وسيلة جانبية، أو هامشية، إلى جانب إصدارات دور النشر الحقيقية.
عرفت من أصدقاء أدباء أنهم دفعوا تكاليف طباعة أعداد كبيرة من كتبهم، حددها الناشر في العقد. ثم فوجئوا – في معرض الكتاب – بغيابها، أو بنسخ قليلة للغاية.
هز الناشر رأسه لخيبة الأمل في ملامح الكاتب: نفد!
قال لي صديقي الأديب الشاب: مؤلم أن يصدر كتابك بنسخه القليلة لمجرد التوثيق!
أضاف في سخرية حزينة: قد يسهل نفاد النسخ لو أني في مكانة الحكيم أو محفوظ أو ماركيث أو الليندي أو محمود درويش، لكن التصور يغيب عن كاتب مثلي في أولى محاولاته!
أخشى أن الظاهرة ستواصل غوايتها واتساعها، ويزداد تسلل من يجدون في النشر وسيلة تكسب جيدة، وربما أدى تكاثر الناشرين إلى نشوء ما يمكن أن نصفه: ناشر لكل كاتب!