………….
✍️ أحمد رفاعي آدم
(أديب وروائي)
منذ أيام رُزِئت البشريةُ جمعاء بكارثة الزلزال الذي ضرب كلاً من سوريا وتركيا. أقل من دقيقة كانت كافية لهدم مئات المنازل وقتل آلاف الأرواح وإصابة وتشريد عشرات الآلاف الآخرين، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون. والسؤال هنا: هل من عِبرة فيما حدث؟ هل من عِظةٍ يجمُل بنا تدبرها؟ الجواب قطعاً هو نعم، بل عِبْرات وِعظات!
لن أخوض في الجانب الديني وكيف أن ما حدث دليل واضح على قدرة الله علينا نحن البشر المتغطرسين والمتجبرين وردع فوري لغرورنا المتنامي وتذكير لنا بعجزنا الصارخ، فمهما بلَغَ علمُنا واعتقادُنا أننا ملكنا الأرض وبتنا قادرين عليها جاءنا من الله ما ذكَّرنا أننا لا شيء أمام عظمته وإرادته، وأنه مهما ارتفعنا قد نسقط وبقسوة في لمح البصر. كذلك لن أتناول الشِق الإنساني في الكارثة فالمشاهد المؤلمة التي تعكسها الصور ومقاطع الفيديو تُقَطِّعُ القلوبَ وهي كفيلةٌ بجعل أكثر الحجارة قسوةً تَرِق وتلين. إن ما أود تناوله سريعاً هنا هو الجانب العلمي الذي قد يبدو للوهلة الأولى بعيداً عن محور الكارثة غير أنه في صميمها وهو القضية الأبرز في كل مصائبنا الطبيعية والبشرية والنفسية.
لدي قناعةٌ شخصيةٌ أنه كلما حلَّتْ بالبشريةِ طامةٌ فاعلم يقيناً أن وراءها جهلاً صريحاً، فالغباء والفقر والجريمة والكوارث جميعها عواقب وخيمة لداء الجهل. فالحروب المدمرة ما من سبب وراءها سوى جهل الإنسان بأولويات وجوده على الأرض وحماقته التي تدفعه للانقياد الأعمى وراء طمعه وشهوته وكراهيته.
والأمراض الفتاكة منبعها في معظم الأحيان جهل الإنسان بالعواقب الوخيمة لتدخله في ميزان الطبيعة وعبثه بمكوناتها فصُنع المبيدات والكيماويات والقنابل وإبادة الغابات وقَتْل كثير من المخلوقات وتغيير النظام البيئي والعبودية المُخزية للذكاء الاصطناعي ما هي إلا صور لذلك الجهل المركب الذي عاد عليه بالوبال والوباء معاً. وكذلك جهل الإنسان بقيمة العلم وضرورة إفناء عمره في طلب النافع منه أدى إلى تكاسله عن كثير من المهام التي بها كان بإمكانه إحكام مزيد من السيطرة على غضب الطبيعة أو على الأقل تحسين مستوى استعداده وجاهزيته حال غضبها وثورتها مثلما حدث منذ أيامٍ في زلزال سوريا وتركيا.
ألم يكن حرياً بعلماء الجيولوجيا ودارسي الزلازل أن يُعيروا ما قاله العالم والباحث الهولندي المختص في الزلازل “فرانك هوغيربيتس” اهتماماً والذي تنبأ بحدوث الكارثة بأدق التفاصيل قبل وقوعها، في تغريدة نشرها عبر حسابه في تويتر قبل أيام من الكارثة؟.
لو أن للعلم في بلداننا الأولوية لسُخِرَتْ كل الجهود لتفسير ما قاله ولأُخِذَ الأمر بجدية ربما كانت قلَّلَتْ من أثر الفاجعة التي نعيشها الآن!
بناءً على كل ما سبق يثبت بالدليل القاطع أن حاجتنا إلى العلم لم تعد محل نقاش ودراسة، فالوضع الآن ببساطة: إما العلم أو الفناء! ذلك لأن العلم، الذي لم يعد ظاهرة هامشية على الإطلاق، يكتسب أبعاداً اجتماعية تزداد أهميتها يوماً بعد يوم، وفي كل لحظة تزداد قناعتنا بأن مصيرنا مرتبط أكثر بالعلم. لكن أي نوع من العلوم؟ أولاً: لابد أن يتسم العلم بالتطبيق أكثر من مجرد الحشو النظري.
آفة التعليم في كثير من بلادنا أنه مجرد حفظ وتلقين – حتى وإن جاز ذلك في بعض الأحيان – لكن يظل الدور الحقيقي للتعليم هو الممارسة والتطبيق. لا شك أن هناك علاقة قوية بين التطبيق والإبداع، على عكس مجرد الحفظ الذي تقل فيه درجة الفهم. على القائمين على التعليم أن يهتموا أكثر بتطبيق العلم على أرض الواقع بحيث يحقق الفائدة المرجوة منه التي تدفع عجلة التطور والنجاح والإنتاج المثمر وتحدو بالإنسانِ العربي ليطرق أبواباً جديدة بالنسبة له كالفضاء والذرة وأمصال الأوبئة المستجدة والعمارة المضادة للزلازل.
ثانياً: في ظل الوضع العالمي المُربِك الذي نعيشه اليوم، يجب أن نؤمن بأهمية ربط التعليم بالواقع. أعني أن نبحث عن احتياجاتنا الاقتصادية والعلمية والثقافية ونوجه دفة العلوم نحوها.
على سبيل المثال لا الحصر، ما الذي يمنع أن نخرج بأنماط تعليمية جديدة واقعية ونافعة في مجال الزراعة تقينا شر الجوع والغلاء؟ ما فائدة وجود مدارس الزراعة في المدن الصناعية والساحلية؟ أليس من الأفضل أن ينشط ذلك النوع من التعليم في المناطق التي تحتاج إلى الإصلاح الزراعي؟ لماذا لا تُبنى مدارس وكليات الزراعة في مناطق مستصلحة حديثاً بحيث يجد الدارسون الفرصة التي يطبقون فيها ما يتعلمونه بشكل يومي وواقعي ونافع؟ على أن تشمل تلك المدارس الإقامة والدراسة والتطبيق ثم بعد التخرج التمليك لمثل هذه الأراضي.
أين دور التعليم الفني -كما يجب أن يكون- في توفير الأيدي العاملة للمصانع والمزارع والفنون النافعة؟ ما لم نُعيد صياغة التعليم بمناهجه وأهدافه ومخرجاته لن تتحقق له فائدة على أرض الواقع وستظل جامعاتنا –إلا ما رحم ربي- مجرد مراكز طباعة شهادات تخرَّج لا أكثر!
أخيراً وليس آخراً، من الذكاء أن يتعلم الإنسان من سقطات الماضي ونوائب الدهر وإلا كان مستحقاً للمزيد منها، لذلك من المهم أن يتصدر علماء البشرية –ويا حبذا لو يكون علماؤنا معهم- لدراسة كل الملابسات المحيطة بتلك الكارثة ومثيلاتها (كوارث طبيعية – أوبئة – مجاعات – إنهيار أخلاقي) من أجل البحث والتقصي واستخلاص الحلول والعلاجات والطرق الصحيحة لللتعامل معها.
أيها القوم، لا سبيل أمامنا للنجاة سوى العلم. أول كلمة في القرآن كانت “اقرأ”، دعوة صريحة للعلم. بالعلم نتعرف على خالقنا فنحسن عبادته وتقواه، ونعرف سر وجودنا على هذه الأرض فنحسن عمارتها وإصلاحها. العلم هو الذي سيهذب أخلاقنا ويصلح نفوسنا فيختفي الفساد بشتى صوره وفي كل القطاعات.
العلم هو الذي يعرفنا بحقيقة الحياة فلا نطلب لأنفسنا أكثر مما تحتاج ولا نعطي للأشياء أكثر مما تستحق. باختصار العلم هو الذي يبني الأجيال ويحقق الآمال ويقضي على الشرور ويحقق الاستقرار.
في النهاية لا نملك سوى الدعاء لضحايا الزلزال بالرحمة وأن يتقبلهم الله في الشهداء وأن يشفي المصابين ويهوِّن أثرَ المُصاب علينا. وإنا لله وإنا إليه راجعون.