أعلنت منظمة اليونسكو استياءها لواقعة تدمير بنايات في صنعاء القديمة، ووصفت البنايات المتهدمة بأنها من درر التراث العالمى، بل تفوق في أهميتها غالبية ما في العالم من البنايات الأثرية.
اكتفت اليونسكو بإدانة ما حدث، وإن لم تتهم طرفًا محددًا بارتكاب الجريمة. وجه الحوثيون اتهامهم إلى طائرات التحالف العربى بأنها هي التي ألقت قنابلها على المبانى الأثرية، فدمرتها، ودافع المتحدث الرسمي لقوات التحالف بأن الحوثيين أقدموا على تدمير البنايات في محاولة للخروج من المأزق الذي يحاصرهم، ولابتزاز العالم حتى يدفع قوات التحالف إلى إيقاف غاراتها.
عندما نلح على قضية سرقة الآثار، فلأن سرقة الأثر تعني ضياعه، وضياع الأثر يعني – بلا أدنى مبالغة – اقتطاع جزء من التاريخ العربي، أو الذاكرة العربية.
بعد أن دمرت داعش آثار متحف الموصل، قامت الدنيا خارج الحدود، ولم تقعد. اعتبرت المؤسسات الثقافية الدولية تدمير آثار الحضارة الأشورية جريمة ضد التراث الإنسانى، وصدر الكثير من قرارات الإدانة والتوصيات التي تدعو إلى إنقاذ ما تبقى من التراث الحضاري العربي، بعد أن تحولت عمليات التدمير والتحطيم – تحت مزاعم غريبة – إلى ظاهرة، يرفضها احتفاء الإسلام – في امتداد عصوره – بالحضارات القديمة. لم يفرض على وجودها في حياتنا شروطًا من أي نوع.
جريمة تدمير قلعة آشور التاريخية تأكيد للمعنى بأن الهدف ليس تحطيم المجسدات التي تسيء إلى الإسلام، وإنما محو كل ما يتصل بالتراث العربي والإسلامي، نزع كل المقومات التراثية من هذه المنطقة، قطع اتصالها بأصولها الحضارية والتاريخية، ليحل – بدلًا منها – تاريخ مخترع لجماعات متناثرة تعاني العزلة والانقطاع الحضاري، فهي تسعى إلى هدفين: إنكار حضارات الآخرين، وادعاء حضارة لا صلة لها بها.
الزعم بملكية تراث المنطقة، أو تدميره، هو الدافع لانتزاع هذا التراث من الوطن العربي، يحاولون سلب المتاح، فإن استعصت سرقته، أقدموا على نسفه.
ما حدث فى القطر العراقى الذي تعود حضارته إلى آلاف السنين، كان جزءًا من مخطط، يشمل الوطن العربي كله، حضارته وتاريخه وتراثه، لا لمجرد الهدم والتشويه، وإنما لنفي الهوية، لمحوها.
المثل نجده فى أقطار الوطن العربي، بداية من الأهرامات الثلاثة وأبو الهول والآثار الأشورية والبابلية والفينيقية وغيرها. بل إننا نجد المثل فى حضارة الأندلس التي قدمت للعالم مثلًا رائعًا لحضارة الإسلام.
في الأيام الأولى لثورة 25 يناير حاول المخربون واللصوص اقتحام المتحف المصرى بالتحرير، ونهب محتوياته، لم يعلنوا انتسابهم إلى جهة ما، لكن التطورات أظهرت هدف محاولة الاقتحام التي شارك فيها عشرات المجرمين، أخلي سبيلهم – بالقوة – من السجون، ودفعوا لنهب معروضات المتحف أو تدميرها.
التفسير يظل ناقصًا ما لم نصل ما حدث – أو ما كاد يحدث – في متحف القاهرة، بما حدث في بغداد، بل إننا لا نستطيع أن نغفل ما حدث في سوريا، حيث تهدم الكثير من أسوار عاصمة الأمويين وقلاعها وأبراجها وقلاعها.
إذا تأملنا المشهد باتساعه، فسنلحظ الأيدي التي حركت الخيوط، من خلال عمليات نهب منظمة، تدمر ما لم تستطع سرقته. قد يصعب سرقة القلاع والأبراج والبنايات الأثرية والتاريخية الكبرى، فتلجأ الأفعال المجرمة إلى التشويه والهدم والإزالة.
زمان، سرقت المسلات المصرية، وسرق رأس نفرتيتي، وكنوز توت عنخ آمون، وآلاف القطع الأثرية التي تنتمي إلى التاريخ المصري فى عصوره المختلفة، وكما نعلم فإن الآثار المصرية تشغل أجنحة كاملة، في باريس ولندن وواشنطن وغيرها من عواصم العالم، والمخطوطات والوثائق النادرة موزعة في مكتبات لشبونة واستانبول ومدريد وموسكو وغيرها.
وكما يروي علماء الآثار المصريون، فإن الآثار المصرية المعروضة في متاحف العالم لا تمثل إلًا 10 % فقط من الآثار المنهوبة، فغالبيتها مودع في قصور ومتاحف خاصة.
الأرقام تقول إن عدد القطع الأثرية المصرية النادرة في الخارج، بلغت ثلاثة ملايين قطعة، تناثرت في متاحف فيينا وبرلين والفاتيكان واللوفر ومتحف لندن والأرميتاج والمتروبوليتان وغيرها من المتاحف العامة والخاصة، بل وقصور الأثرياء الذين أضافوا إلي هواياتهم اقتناء الآثار المصرية!
أذكر تأكيد الدكتور محمد إبراهيم بكر رئيس هيئة الآثار المصرية السابق أن ما يتم ضبطه من الآثار المصرية المهربة، لا يزيد عن واحد في المائة فقط، بمعنى أن 99% من الآثار المنهوبة تهرب إلى الخارج، مع أفراد، ومع مجموعات سياحية، ووفود، وفي الحقائب الدبلوماسية.
الحضارات العربية منفصلة متصلة، تعبر – في مجموعها – عن أقدم الحضارات الإنسانية. وحين ندين تدمير معالم من هذا التراث الإنساني في قطر ما، فإننا ندين الهمجية التي أقدمت على التدمير بغواية أجنبية. من المستحيل أن يجد هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الإسلام معنى الوثنية في هذه الآثار، بعد مرور مئات الأعوام على فجر الدعوة الإسلامية، ومرور مئات الأعوام التالية على وجودها في حياتنا، كجزء أصيل من الحضارة والثقافة العربية.
وطننا العربي هو الكنز التراثى للعالم، أهلته حضاراته القديمة لأن يكون متحفًا حيًا للتراث الإنساني عبر آلاف السنين. زالت دول، وتبدلت حكومات، وتغيرت ديانات، ونشأت حركات متطرفة، لكن متاحف الآثار الحية ظلت على حالها، لم تمتد إليها يد بالتخريب والتدمير.
سرقة الآثار ظاهرة متولدة من الظاهرة الأكبر، وهى تدمير التراث العربى، تشويه الحضارة العربية، أو إلغائها، بحيث يقتصر تاريخها – كذبًا – على الكتب الدراسية، مثلما تتناول تاريخ الهنود الحمر، قبل أن يلغى الاستعمار الأوروبي واحدة من أهم الحضارات الإنسانية. كل الوثائق والتنقيبات – بواسطة علماء الغرب أنفسهم – تكشف عن التقدم الذي بلغته حضارة الهنود الحمر، قبل أن يستولي المغامرون الأوروبيون على مدنهم وقراهم، ويصفونهم جسديًا، لم يعد سوى أطلال تذكر المستعمر الغربي بغزواته الوحشية، وأعداد قليلة من أبناء البلاد الأصليين يسير بعضهم – من قبيل الطرافة – في مقدمة الاحتفالات الوطنية، حتى أعلن المغنى فرانك سيناترا عن شكره للهنود الحمر لأنهم أهدوا أمريكا لأجداده!
أول ما يفعله الطبيب لإنقاذ مريض يعاني النزف، هو إيقاف النزف أولًا، وسرقة آثارنا نزف، علينا أن نوقفه، قبل أن ندرس ونخطط ونعد المشروعات والقوانين، تلك جميعها خطوات تالية، أما الخطوة الأهم، فهى إيقاف النزف، عدم زيادة المساحة المنهوبة من آثارنا، لأن الأثر الذي يسرق ويهرب إلي الخارج ، يصعب تمامًا أن نستبعده.
أن نعجز عن إيقاف النزف، بالاقتصار على التشريعات والخطوات التي تمنع عمليات نهب الآثار، فذلك ترف يجب أن نسقطه حالًا.
فلنوقف النزف أولًا، بأى ثمن، وبأية وسيلة، لأن سارقي الآثار لا يحفظونها داخل البلاد فتظل فرصة العثور عليها قائمة، لكنهم يهربونها إلى الخارج فتضيع!
أيًا يكن الفاعل فى عمليات تدمير التراث العربى، فإن المخطط لتلك العمليات يسهل التعرف إليه فى ضوء بديهية أن من يخفق فى أن يصنع له تاريخاً وحضارة، يحاول نسف ما يمتلكه الآخرون، فضلاً عن محاولة السطو على إرثهم الحضارى.
خطورة تشويه الآثار، أو سرقتها، أو تدميرها، أنها تعنى الضياع أو الاندثار، حيث لا سبيل إلى استعادتها. حتى الترميم الذي يحاول إصلاح ما أفسده المخربون لا يعيد الأثر إلى أصله.. والشواهد كثيرة.
هذا النزف الذي تعرض له تراثنا القومي فى امتداد التاريخ ، ومن خلال عمليات النهب والتشويه التي مارسها لصوص ومغامرون وعلماء آثار، غاب – بتبدده – فى أفق المستحيل. ولن يتحقق الحفاظ على ما تبقى إلا باعتبار سرقة التراث – بصرف النظر عن قيمته – جريمة تستحق المؤاخذة الرادعة.
ما لا يقدر بثمن، ويصعب استعادته، يتجاوز معنى السرقة أو التدمير، حتى الذي يسطو على قطعة أرض أمتلكها، أستطيع أن أستعيدها بوسيلة ما، ومنها اللجوء إلى القوة. أما تدمير الآثار، فإنه يعنى محو جزء من ذاكرتي، من حضارتي وموروثاتي، بحيث يصعب – إن لم يكن من المستحيل – تعويضها.
جرائم الآثار هى قضية أمن قومي، ليست مجرد حوادث عادية، لكنها اعتداء على التراث، الذي لا تستقيم بدونه حضارة أية أمة. لذلك كان حرص الغرب بتاريخه الذي لا يزيد عن بضع مئات من السنين، على إلباس ثوب التراث ما ينتمي إلى عقود قريبة، مجرد أن ينسب إلى نفسه حضارة لم تكن موجودة.
*