»» ✍️ أحمد يحيى زُقلي
” إعلامي مصري مقيم بالكويت”
——–
إن البرزخ مرحلة فاصلة بين حياتين؛ الحياة الدنيا والحياة الآخرة. لذا يقضيها الإنسان ميتا. وقد ثبت أن (كلُ نفسٍ ذائقة الموت). ولذلك فنحن ذاهبون إلى ذلك البرزخ طال العُمر أو قَصُر.
عندما أراجع مواقف العُلماء المتقدمين والمتأخرين من قضية (الرُوح والنفس) أتعجب من إصرارهم على دمج الجوهرين في جوهر واحد. ويزداد تعجبي عندما أجد تأكيدهم على أنّ الروح والنفس اسمان لشيء واحد يُحرّك الإنسان.
ويتضاعف التعجب اضعافا مُضاعفة عندما كانوا يُسألون من تلاميذهم وغير تلاميذهم عن ملامح تشير إلى أنّ ثمة اختلافات في الإيجاد والدور بين الجوهرتين المنفوخة والمُسوّاة، حينها كانوا يقولون: نحن وقافون عند النصوص. رغم أنّ خلطهم هذا يشير إلى اجتهاد بشري، ولو انهم وقفوا عن النصوص لكان خيرا.
نعم، توقفهم في هكذا حالات أفضل من اجتهاد يخالف ظاهر نصوص القرآن والسُنّة، وإن كنا بلا شك نحسب هؤلاء العلماء على خير، ولا نزكي على الله أحدا، بل ولا ننكر لهم ما وُفقوا فيه وهو كثير، نظير خطأهم في بعض مسائل. ونسأل الله لهم المغفرة والرحمة.
وأحيانا تأخذني شطحات عقلي إلى قبور بعض العُلماء لأنظر فيها نظراتٍ خاطفة، وهناك أرى بعض مشاهد وقد صورها عقلي في شكل عدد من “الڤيديوهات” بالصوت والصورة.
لا أعلم لِماذا يُسلّم عقلي أجنحته أحيانا – وربما أحايين- للشطحات. وظني أنّ ذلك بسبب امرين اثنين معا: حُب استطلاع، وتعجبي الذي ذكرته في مطلع المقال. وقد يُضاف اليهما سببٌ ثالث وهو انني احببت الطيران والتحليق منذ أن علمت سٍر الرُوح. ربما!
أجدني أرى “ڤيديو” مثلا لعالِم كبير قد رحل عن دنيانا وصار من أصحاب القبور، وقد أصابه ما يصيبني من تَعجُّب مما رأى في برزخه!! فقد اتضح له أنّ رُوحه تختلف عن نفسه، وأنّ نفسه نامت بعد الحساب مباشرة، فيما خرجت رُوحه لتسرح وتمرح في الجنة.
مشهد آخر يُعرض على مخيلتي أرى فيه مجموعة من العُلماء وهم يتحاورون فيما بينهم، أحدثهم لحاقا بهم يقول لهم: هل أبلغكم أحدٌ أن الحقيقة التي نمر فيها الآن من أمر أرواحنا ونفوسنا المتباعدة قد صدرت بها كتاب؟ فيجيب ثانٍ: سُبحان الله! فالتوفيق من الله يعضد به من يشاء من عباده. وثالث غير ملتحٍ يقول: لقد قرأتُ كتبكم أيها المتقدمين ولم أجد فيها تفريقا، ومع ذلك ذكرتُ في بعض كتبي قبل أن آتي إليكم أنّ الرُّوح لا يقع عليها العذاب، لأنها غير مُكلّفة، وأنّ النفس قد أبان الله لنا أنها تُسوّى وهذا بخلاف الرُوح التي تُنفخ، لكنني هُوجمت من بعض العُلماء.
مازال الحوار يدور.. وهناك في زاوية من الجنة يحطّ طائرٌ أخضر تسكن حوصلته رُوح أحد العلماء.. ثم تقترب من هذا الجمع الطيب لتقول لهم: تركت نفسي منذ قليل وقد ذهبت لإيقاظها، فكان المُراد تبشيرها برفع درجتها، وها قد فعلت ثم عُدت فمررت بجوار جِلستكم الطيبة فسمعتُ ما تقولون، وأحسب أنني ذكرت في تفسيري لقول الله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) أن الآية تتحدث عن تلاقي أرواح: الموتى النيام والأحياء النيام!
هنا، أوقفتُ الفيلم وأطفأتُ شطحات عقلي من التحليق في البرزخ فيكفي ما رأيت. وعدتُ وسألتُ نفسي: تُرى لو خرجتُ إلى قومي اليوم عبر وسائل الإعلام وقلت لهم: إنني أتيت بتفسير جديد للآية هل هُم سامعيّ أم كعادة الأنفس التي غادرتها الأرواح، نائمون؟
وهنا حدثتني نفسي بحديثٍ في يقظتي وقالت: لقد قطعتَ شوطا كبيرا بنشرك للكتاب؛ فيكفي أنني أعطيتك الجرأة التي تغيب عن بعض أصحاب القلم ممن وهبهم الله بعض الفتوحات! قلت: لسنا هنا في محل تقسيم مغانم أو مفاخرة بأدوار، لتقولي لي (أعطيتك) فنحن جميعا الآن حُضور: نفس وروح وجسد وقلب وعقل وفؤاد. وإننا نبحث في أمرٍ مُتعلق بالكيان.. أليس ذلك صحيحا يا مُنير الكيان الإنساني؟ فأجاب الوعي بعد أن نظر لأبيه العقل يستأذن: بلى.
قلت: وما دامت كل دواخلي مُتحدة ومؤيدة، فإن القرار الجوهري أتُخذ بالإجماع.. وهنا قلت:
(إن تفسير قول الله سبحانه وتعالى《اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ》{الزمر:42} هو كالتالي:
إن الآية التي ظلّت لقرون محل خلاف بين العلماء في تفسيرها مع ذهاب أغلبيتهم إلى أنّ المقصود من (التوفية) هنا هو (الموت). إنما هي في حقيقتها دليل قرآني على أن البرزخ نوم ويقظة، فالآية تُعضد ما جاء في السُنّة من أحاديث تؤكد نوم الميت ويقظته، فالله تعالى يرينا هنا قدرته سبحانه وتعالى على أنّه القادر؛ وأنّ من دلائل قدرته سبحانه إنامة النفس بتوفيتها اي باخراج وإبعاد الرُوح عنها. وليس المقصود بالتوفية في الآية الموت بل(النوم).
فالله يقول: أنه قادر على إنامة الأنفس الميتة، وذلك بفصل الروح عنها، فتنام الأنفس في برزخها وتذهب الروح لتُحَلِّق. ويضيف ربنا أنه تعالى يتوفى أي ينيم الأنفس التي ما زالت على قيد الحياة كذلك. وذلك أيضا بفصل روحها عن نفسها فتبقى النفس في جسد النائم الحي وتذهب روحه لتُحلِّق أيضا.
ثم يضيف ربنا سبحانه وتعالى: أن من النفوس من تموت اثناء غياب أرواحها (اثناء نومها). وهذه الأرواح تريد أن تعود إلى نفوسها لتوقظها، ظنا منها أنها على قيد الحياة. ولكن لأن نفوسها ماتت اي خرجت من جسد صاحبها، فهنا يُمسك اي يمنع ربنا تلك الارواح كي لا تعود إلى نفس صاحبها فلا دور لها هناك حيث قد خرجت النفس وتركت الجسد. كما يُمسك الله تعالى تلك الارواح التي نفوسها ماتت من قبل والتي هي موجودة في قبرها. وفي المقابل فإن الله يُرسل باقي الأرواح للنيام الاحياء لأن أجل نفوسهم لم يحن بعد.). انتهى. والله أعلم.
وبعد أن كتبت هذا التفسير قلت لنفسي: سُبحان الله! كيف لم ألتفت لهذا التفسير لأضعه في كتابي (أسرار الحياة الغامضة)؟ ثم تذكرت أنني كنت اميل لهذا الامر في الكتاب لذلك عضدت رأيي بتفسيري السدّي وابن عاشور رحمهما الله، واللذين اشارا في تفسير الآية إلى (تلاقي الارواح)، ولكنهما لم يُفسرا القول.
وظني أنّ السديّ وكذا ابن عاشور توقفا عند حد ما في تفسير الآية وذلك لأنّ الروح لم يكن وقتها تم فصلها عن النفس في أدبيات العلماء. كما لم يكن معروفا أن دور الروح هو اعطاء صاحبها اليقظة. فلم يكن وقتها قد ظهر كتابي للنور.
هنا تذكرت قول الله تعالى: (قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰٓ ۗ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) {النمل: 59}. وكذا قوله سبحانه: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) {النمل:93}.
فقلت: الحمد لله أن أجرى الأمر على لساني وبقلمي. وسألتُ الله ان يرزقني الإخلاص له وحده في العمل والعلم وكل شأني. وتساءلت: لماذا أتت آيتا الحمد هاتين في سورة واحدة وهي النمل؟ ولمّا لم أجد إجابة واضحة، قلتُ: الله أعلم.
ومازالت أسرار القرآن لم تَبُح بكل ما في جعبتها .