في ظل غلاء الأسعار ظهر مؤخرا من ينادي بالاتجاه نحو أكل لحوم الخيل، بينما أنكر عليه آخرون؛ الأمر الذي تسبب في انقسام الشارع المصري بين مؤيد ومعارض، ما دفعني لكتابة هذا المقال؛ حتى نُظهر هذا اللبس، ونُوضح هذا الغموض، في حل أكل لحوم الخيل أو حرمتها.
فأقـول: للفقهاء في هذا المسألة ثلاثة اتجاهات:
> الاتجاه الأول: القائلون بالجواز.
أباح جمع غفير من الصحابة والتابعين (جواز أكل لحوم الخيل من غير كراهة)، منهم: أنس بن مالك، وعبد الله بن الزبير، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وعلقمة، والأسود، وعطاء، وشريح، وسعيد بن جُبير، والحسن البصري، وغيرهم.
وهو مذهب جمهور الفقهاء: من الشافعية، والحنابلة، وأبي يوسف ومحمد من الحنفية، وهو قول للمالكية، وغيرهم.
وأدلتهم في ذلك قوية ومعتبرة، منها:
1- حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: «نحرنا على عهد رسول الله ﷺ فرسًا فأكلناه » . صحيح البخاري.
2- حديث جابر قال: «نهى رسول الله ﷺ يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل». صحيح مسلم.
3- وعن جابرٍ قال: «سافَرْنا مع رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُنَّا نأكُلُ لُحومَ الخَيلِ، ونَشرَبُ ألبانَها» سنن البيهقي الكبرى
4- وعن جابِرَ أيضا قال: «أكَلْنا زمَنَ خَيبَرَ الخَيلَ، وحُمُرَ الوَحشِ، ونهانا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الحِمارِ الأهليِّ » صحيح مسلم.
5- أنَّه حيوان طاهر، ليس بذِي ناب ولا مِخلَب، فيحِل أكله، كسائر بهيمة الأنعام.
فهذه نصوص صحيحة صريحة في جواز أكل لحم الخيل، وهي تعارض الاحتمال الذي في الآية.
> الاتجاه الثاني: القائلون بالجواز مع الكراهة:
وإليه ذهب ابن عباس، ومجاهد، والحَكَم، وهو قول أبي حنيفة، وقول ثان للمالكية، وغيرهم: إلى (كراهة) أكل الخيل.
واستندوا في ذلك إلى قول الله تبارك وتعالى:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}
قالوا: فالاقتصار على الركوب والزينة يدل على أنها ليست للأكل؛ إذ لو كانت للأكل لقال: ومنها تأكلون، كما ذكر ذلك في حِلِّ أكل الأنعام، فقال: (وَٱلْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَٰفِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)، فالله سبحانه أشرك الخيل مع البغال والحمير، والبغال والحمير محرمة الأكل، فقرنت معها الخيل فأصبحت محرمة الأكل بدلالة الاقتران.
> الاتجاه الثالث: القائلون بالتحريم.
وهو قول للمالكية.
واستدلوا على ذلك بالآية التي استدل بها الجمهور.
وبحديث خالد بن الوليد، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير). وهو حديث ضعيف.
> وبناء على ما تقدَّم، فالمذهب المالكي فيه ثلاثة أقوال في حكم أكل لحم الخيل، الجواز، الكراهة، التحريم، فالمسألة قد تعددت فيها آراء الفقهاء، فمن أخذ بقول المجيزين فلا حرج عليه، ومن أخذ بقول المحرمين فلا حرج عليه، والأقرب إلى الصواب الجواز، وكون النفس تأبى أكله فهذا أمر آخر، وذلك لما يلي:
أولا: قوة أدلة المجيزين، وضعف أدلة المخالفين.
ثانيا: أن ما استدل به من منعوا أكلها بالآية الكريمة فيه تأويل، والآية نفسها ليس فيها نص صريح في منع الأكل، بل هي تفيد حل الركوب والزينة، ولا تنفي نفيا قاطعا حل الأكل، والأحاديث الصحيحة التي استدل بها المجيزون رافعة لذلك التأويل.
يقوي هذا الترجيح أيضا: أن قول الله تبارك وتعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} الوارد في إباحة الأكل والمنافع لا يدل على الحصر في هذه الأنواع فقط، بدليل أن الإبل ذكر الله فيه الدفء والمنافع والأكل، ولم يذكر الركوب، مع أنه يجوز ركوبها، فكذلك الخيل ذكر الله جل وعلا أنها زينة وأنها تركب، ولا يعني هذا أنه لا يجوز أكل لحمها؛ فالآية في سياق الامتنان من الرب على عباده بكل هذه النعم من أكل وشرب وركوب، وليس المقصود بها الحصر.