»» بقلم ✍️أحمد يحيى زُقلي
“إعلامي مصري بالكويت”
الرُوح – بضم الراء- واحدة من أكثر المسائل التي تناولها المسلمون منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد انقسموا منذ القرون الأولى حولها من حيث كنهها مخلوقة أم قديمة، إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ سكت، وآخر قال بأزليتها (قِدمها)، وثالث قال بأنها مخلوقة.
وإنّا من فُسطاط من يقولون بخلقها. لثبوت الأدلة على ذلك في القرآن والسُنّة وعهد الصحابة والتابعين وإجماع الأمة قبل ظهور الفِرَق.
قال تعالى للملائكة عن آدم عليه السلام: (فإذا سويته ونفخت فيه من رُوحي).
فالرُوح، مُكَرّمَة من خالقها سبحانه وتعالى، بإضافتها إليه سبحانه اضافة المخلوق لخالقه، مثل (قل يا عبادي)، فقد نسب الله سبحانه العباد إليه، رغم أنهم من جملة الخلق. وهذا ما لا خلاف فيه.
كما أنّ الرُوح داخلة في مُكوِّنات الإنسان (جسد، نفس، ورُوح). لذا فهي منضوية تحت مظلة عبادة الله وطاعته، وخاضعة لأمره سبحانه وتعالى: فإن شاء أمسكها فلا تعود للنائم، وإن شاء ردها له ليستيقظ. كما في الحديث (إنَّ اللَّهَ قَبضَ أرواحَكُم حينَ شاءَ ، وردَّها إليكم حينَ شاءَ).
وهذا الحديث أجد فيه ما ينسف قول القائلين بأنّ الرُوح قديمة غير مخلوقة، وهذا النسف قائم على ذات القاعدة التي انطلقوا منها في قولهم ذاك ،وهي قاعدة (النَّسَب). كيف؟
ففي الحديث نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنا ينسب كلَّ رُوح إلى صاحبها من بني آدم فقال: (أرواحكم) ،ولو كانت الرُوح داخلة في اسم الله تعالى (أزلية)، لَما أضافها نسبها صلى الله عليه وسلم إلى العبد المخلوق.
وإلى مثل ذلك ذهب ابن القيِّم رحمه الله حين قال: “النصوص الدالة على أن الانسان عبد بجملته [إلى أن قال] قال تعالى: (هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فلو كانت رُوحه قديمة لكان الإنسان لم يزل شيئا مذكورا، فإنما هو إنسان بروحه لا ببدنه كما قيل”. انتهى. (الرُوح ص 509).
مع ملاحظة أن ابن القيم كان ممن يقولون بأن الرُوح هي النفس، أي أنهما شيء واحد. وهذا ما أثبتنا عدم صحته. ودلائل ذلك أوضحناها في كتاب (أسرار الحياة الغامضة) وبيّنا أنّ كلا منهما جوهر مختلف عن الآخر في الإيجاد، والوظيفة، والإستمرارية، والإنتهاء.
فأما في الإيجاد: ففي خلق آدم عليه السلام نجد أنّ النفس سُوّيت أولا، ثم نُفخت الرُوح. وأما في الوظيفة أو الدُور: فالنفس مصدر الحياة، والرُوح مصدر اليقظة.
وأما في الإستمرارية: فالنفس لا تخرج من جسد الإنسان إلا بموته، والرُوح تخرج وتعود مع كل نومة ينامها الإنسان. ويدخل في طائفة النوم، الغيبوبة، والإغماءة، والسِنَة. لأن جميعها تحدث بخروج الرُوح.
كما نجد أن النفس إن خرجت من الجسد فقدت سُلطانها؛ لأنّ جسدها كان في الحياة هو مُنَفّذ مُراداتها ،لذا تبقى في برزخها مُضجعة إلى أن يشاء الله حيث موعد البعث والنشور، لكن الرُوح يَقِظة باستمرار منذ أن أوجدها الله؛ لأنها هي مصدر اليقظة. فهل تظن أنّ اليَقَظة يَصِّحُ لها أنْ تنام؟
/
لذا إذا أردنا تعريف الرُوح من حيث الوظيفة قلنا: الرُوح هي اليَقَظة. فإنها في الموتة الأولى أعطت الذُرية يقظتها في مشهد العهد والميثاق. وفي الحياة الدنيا تعطي الأنفُس يقظتها وتحرمها منها أيضا: أي تنضم إلى النفس فتوقظها، وتخرج بعيدا عنها فتنام النفس. وفي البرزخ تعود الرُوخ إلى النفس فتوقظها وتغادرها فتنيمها. وفي الآخرة لا تخرج الرُوح بعيدا عن النفس والجسد لذلك يحيا الإنسانُ يَقِظا مؤبدا.
كما أجد أنّ التكريم الذي نالته الرُوح بإضافتها إلى الله عز وجل، ينسحب أيضا على رفعها عن مستوى التقصير. كيف؟
إن الله سبحانه شاء أن يُوجد هذا الإنسان على هيئته الخارجية والداخلية (جسد، نفس، وروح). وقد مَنّ الله سبحانه على خلقه من بني آدم بأنْ أمدهم – بالإضافة إلى ما سبق- بثلاثة جواهر أخرى هي القلب، العقل، والفؤاد.
وإذا قرأنا القرآن وتدبرناه لوجدنا أنّ الله سبحانه يذم هذه المكونات الإنسانية التي عند بعض العباد، وذلك نظير عدم إيمانهم. فَذمّ القلب كما في قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مَرضا) وقوله: (ختم الله على قلوبهم) ويصف خوف ووجل الكافرين بالله يوم القيامة بقوله: (وأفئدتهم هواء) ويقول كذلك: (أفلا يعقلون) و(أفلا تعقلون).
وإذا قرأنا السُنّة المُطهرة واستوعبناها سنجد أن مَلك الموت يذم جسد ونفس الكافر وقت الإحتضار، فيقول مَلك الموت: (أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث..) (من حديث أبي هُريرة- انظر الرُوح لابن القيّم).
إذن، ذُم الجسد، والقلب، والفؤاد، والعقل، والنفس. وما أوردناه ما هو إلا أمثلة. وفي المُقابل نجد أن الرُوح لم يُوَجَه لها ذمٌ قط. وهذا يشير إلى أمور من وجهة نظري: منها أنها خلق مُحايد، ولا يقع عليها التغير بالخيرية أو الخُبث ولا تخضع لما تخضع له باقي المُكوِّنات.
وهذا الأمر عائد إلى دروها المُكلّفة به وهو إعطاء الإنسان يقظته ونومه. وفي هذا الدَّور نجد أن الله تعالى وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يبرئانها من أي تقصير فيه. كيف؟
إن خروج الرُوح من النفس، أي انفصالها عنها هو ما يسميه ربنا تعالى ب (التوفية) -وهناك توفية بمعنى الموت لن نتطرق لها هنا-. ومن امثلة التوفية التي تعني النوم قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) {الأنعام:60}. والآيات في هذا الإطار كثيرة.
وقد نسب الله تعالى فِعل النوم إليه تعالى، فقال: (يتوفاكم).
وفي السُنّة، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الذي نقلنا بعضه أعلاه، يقول أبو قتادة: (سرَينا معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ليلةً فقالَ بَعضُ القَومِ : لو عرَّستَ بِنا يا رَسولَ اللَّهِ. فقالَ: إنِّى أخافُ أن تَناموا عنِ الصَّلاةِ. فقالَ بلالٌ: أَنا أوقظُكُم. فنَزلَ القومُ فاضطَجَعوا، وأسندَ بلالٌ ظَهْرَهُ إلى راحلتِهِ فغلَبَتهُ عينُهُ، فاستَيقظَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وقد طلعَ حاجبُ الشَّمسِ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: يا بلالُ أينَ ما قلتَ. قالَ بلالٌ: يا رسولَ اللَّهِ ما أُلْقيَت عليَّ مِن نومةٌ مثلُها قطُّ. فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: إنَّ اللَّهَ قَبضَ أرواحَكُم حينَ شاءَ، وردَّها إليكم حينَ شاءَ. ثمَّ قالَ: يا بِلالُ قُم فأذِّنِ النَّاسَ بالصَّلاةِ. فتوضَّأَ، فلمَّا ارتفَعتِ الشَّمسُ وابيضَّت قامَ فصلَّى).
وفي الآية وكذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:(إنَّ اللَّهَ قَبضَ أرواحَكُم حينَ شاءَ، وردَّها إليكم حينَ شاءَ) تبرئة للرُوح من التقصير في عدم العودة في موعدها. وذلك لأن الله هو المُتوفِي أي المُنيم. أي انه سبحانه هو قابض الروح وهو كذلك الباعث اي الرّاد للروح. فسبحان الله.
وفي المقابل، نجد أنّ تأخر النائم في نومه يكون ذمّا للنفس بشكل رئيسي (لأنها المتحكم) والجسم بشكل فرعي (لانه التابع).
ذلك أنّ النفس إن لم تُطع الله ورسوله في الأخذ بالأسباب اُعتبرت مُقصّرة، فعدم اتباع النائمِ النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أذكار النوم يؤدي الى ان يُسيطر الشيطان على الإنسان في نومه فيتأخر عن الصلاة. فكأن الله يتركه للشيطان فيؤخره عن النوم. أو كأن الشيطان يعرف أنّ الله سيعاقب النائم بتأخير روحه عن الرّد لكونه متبعا للشيطان. والأمران في النهاية صائبان: غضب الرب، ومعية الشيطان. والأمران في نهاية المطاف يؤديان إلى تأخر النائم في نومه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَعْقِدُ الشيطان على قَافِيَةِ رأسِ أحدِكم، إذا هو نام، ثلاث عُقَدٍ، يَضْرِب على كل عُقْدَةٍ: عليك لَيلٌ طويل فَارْقُدْ، فإن استيقظ، فذكر الله تعالى انحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإن تَوضِّأ، انْحَلّتْ عُقدَةٌ، فإن صلى، انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّها، فأصبح نشيطا طَيِّبَ النفس، وإلا أصبح خَبِيثَ النَّفْس كَسْلَان).
وعَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ الْأَنْمَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ :(بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْتُ جَنْبِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَخْسِئْ شَيْطَانِي، وَفُكَّ رِهَانِي، وَاجْعَلْنِي فِي النَّدِيِّ الْأَعْلَى). رواه أبو داود (5054)، وحسنه النووي في ” الأذكار “.
وأخرج البخاري، ومسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، فقال: (بال الشيطان في أذنه).
ومازالت الرُوح تُرينا من حِكم الله وعجيب صنعه. فسبحان الله.
☆☆☆