في معهد جوته الألماني بالقاهرة، وبدعم من المجلس الثقافي البريطاني، ووصلة للفن، قدم المخرج والكيروغراف منير سعيد،عرضين راقصين، وهما نتاج تعاونات دولية حيث تم تطوير عرض “ كنت هناك ” خلال إقامة فنية بدولة بلغاريا ،و هو عرض رقص فردي ، بينما تم تقديم عرض ” تحركات مجهولة ” خلال زمالة فنية بأكاديمية “شلوس” بألمانيا خلال عام ٢٠٢٢، و تم تقديم نسخة من العرض بصوفيا ببلغاريا ، و هذه المرة قدم العرض بمؤدين مصريين، و يمزج العرضان ما بين الفنون الأدائية و البصرية،حيث يسعى الأداء البصري، عبر الفيديو، إلى التكامل مع الأداء الحركي للراقصين،وتأكيد مغزى الرقص،وإعانة المشاهد على تلقي العرض، وسد الفجوات التي قد تنتج عن غياب الكلمة، وإن ظلت مسألة التلقي والقراءة مرهونة بحالة المشاهد ووعيه وثقافته، وكذلك بقدرات الراقصين على توصيل مغزى الرقص.
قد يبدو منطقيًا أن نسأل هل ثمة علاقة بين العرضين، غير كونهما راقصين،تبرر تقديمهما معًا؟والإجابة بنعم،أخذًا في الاعتبارأن أغلب عروض الرقص المسرحي الحديث يمكن أن تتعدد قراءاتها وتأويلاتها، بخاصة تلك التي تستغني تمامًا عن الكلمة وتستبدل بها الحركة والموسيقى والمؤثرات البصرية، ورغم ذلك فهي لاتأتي منغلقة على نفسها تمامًا، فهناك دائمًا وأبدًا مفاتيح يمكن الولوج إليها من خلالها.
مساحات التشابه ،أو بمعنى أدق، مساحات التكامل بين العرضين تتمثل في عدة عناصر،منها الاعتماد على خلق معادل بصري في العرضين من خلال الفيديو المصاحب للرقص في عمق المسرح، وملابس الراقصين التي جاءت باللون الأسود،والإضاءة الشاحبة في الغالب( صممها شريف الدالي)والموسيقى التي تتنوع صعودًا وهبوطًا(وضعها جوديث هامان)تبعًا لحالة الراقصين واستجابة لما في دواخلهم ويودن التعبير عنهم رقصًا، إن بانتظام أحيانًا، وإن بعشوائية أو بحرية في أغلب الأحيان، الحرية التي يمنحها الراقص لنفسه ليعبر عن انفعالاته الداخلية اللحظية، فكل رقصة تأتي قاصدة معنى، أو مغزى، بعينه، بحسب السيناريو الموضوع للعرض، وبحسب قدرات الراقص وفهمه رسالة العرض.
أما التشابه الأكثر بروزًافهو تلك الأزمة الوجودية التي يحياها الإنسان المعاصر،وصراعه اليومي من أجل العيش والبقاء، ، وهزائمه وإحباطاته المتكررة، ذلك مايحاول أن يطرحه العرضان،هما عرضان عن قسوة العالم وبرودته، عن الآمال الضائعة، والأحلام المجهضة،وكل شئ غير مكتمل في الحياة التي نعيشها، لينتهي الأمر دائمًا بالسقوط وخيبة الأمل.
أنفاق من دون ضوء
في عرض” كنت هناك” تخوض البطلة( لعبت دورها كريستيان داون كامبل) حياتها مغمضة العينين، ثمة عصابة على عينيها،وكأنها مدفوعة إلى التخبط في طريقها هنا وهناك،مهزومة دائما في صراعاتها، وثمة، على الخلفية عبر الفيديو ،دوائر وأنفاق لاتنتهي بأي ضوء، ،مساحة التمثيل في العرضين خالية تمامًا من أي قطع للديكور، أو حتى بعض الموتيفات، لاشئ سوى الفراغ،وشاشة تعرض أشكالًا تبدو في أغلب الأحيان شائهة وغير واضحة المعالم، وكأنها المعادل البصري للتشوه، أو للأسئلة التي تبقى دائمًا دون إجابات.
استطاعت الراقصة في تخبطاتها ولهاثها وصوتها الداخلي، الذي أفصحت عنه مفرداتها الجسدية، وكذلك في الكثير من حركاتها التي تعمدت ألا تكون مكتملة أو منتظمة، أن تنقل إلينا أشواقها وأساها، وعدم قدرتها في التآلف مع هذا العالم،وربما يكون العنوان( كنت هناك) تعبيرًا ضمنيًا عن خروجها من هذا العالم، أو في الأقل عن رغبتها الجامحة في مغادرته، بعد اكتشاف عدم قدرتها على الصمود في وجه الألم والانكسار، والاستجابة لشروط لاتحتملها قدرة إنسان.
آلية واحدة
ويأتي العرض الثاني(تحركات مجهولة) ليواصل أربعة راقصين( خالد محمد، نوران أيمن، زياد رمضان، تسنيم أشرف )، وبالآلية والأدوات نفسها،التعاطي مع روتين الحياة اليومية،من خلال تلك التحركات التي تبدو بلا هدف أو معنى، هو نفس العالم، أو نفس الزاوية التي يتم من خلالها النظر إلى العالم المعاصر، الذي يطحن الفرد، ويضعه في دائرة جهنمية من السعي لتحقيق ذاته، ذلك السعي الذي لايكلل في الغالب سوى بالخيبات،وإن اختلفت طرق الأداء، بين هذا وذاك.
وعلى رغم التقشف الواضح في العرضين، وهو تقشف يبدو مقصودًا،فلا ديكور، ولا مصادر إضاءة متعددة ومتنوعة في ألوانها ودرجاتها، ولاملابس مبهجة، الأسود هو سيد الموقف بكل مايحمله من دلالات، على رغم ذلك استطاع المخرج تقديم صورة بصرية سمعية،دالة وموحية،سواء من خلال شريط الصورة عبر الفيدو، أو من خلال الموسيقى ،أو من خلال أجساد الممثلين الذين تعايشوا مع الحالة من أعماقهم،وبدوا جميعًا مؤمنين بقضيتهم، التي هي قضية أغلب الشباب الآن،ناظرين إلى لحظتهم الراهنة في غضب، طارحين أسئلتهم،متى يكون العالم أكثر رفقًا بنا، وأقل قسوة علينا.
استغرق كل عرض حوالي ثلاثين دقيقة فقط،لكن الراقصين، في تلك المساحة الزمنية المحدودة، استطاعوا تقديم شحنة فكرية وفنية ممتعة ومكثفة، واختزلوا، بالرقص والموسيقى،مساحات واسعة يمكن أن يستغرقها الكلام،وإن كان ذلك لايعني أن مايقدمونه يمكن أن يصبح بديلًا عن مسرح الكلمة،فلكل نوع أهميته وجمهوره، ولكل نوع كذلك وسائطه التي يستطيع بها توصيل رسالته، والمهم في هذا وذاك، أن يكون صادرًا عن وعي بأهمية مايطرحه،والأهم بالتأكيد هو كيف يطرحه.